التخطي إلى المحتوى

أتى قرار توقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة من خارج الحسابات السياسية والقضائية، إذ لم يكن أحد على دراية بأنه سيمثل أمام النائب العام التمييزي جمال الحجار، في جلسة لم يعلن عنها مسبقاً على رغم أهميتها، لتنتهي هذه الجلسة التي استمرت ثلاث ساعات بتوقيفه على ذمة التحقيق، ما طرح تساؤلات كبيرة حول “المشهدية” غير المعهودة في لبنان الذي باتت فيه ظاهرة التفلت من العقاب هي الطاغية. 

يأتي هذا التطور بينما لبنان منشغل بمعارك الجنوب أمنياً، فيما أزماته الداخلية السياسية والاقتصادية لا تزال على تأزمها، وسط ترقب لاحتمال وضعه على القائمة الرمادية للدول التي تعاني فجوات مالية أساسية وثانوية في مكافحة غسل الأموال.

ووفق مصدر قضائي مواكب للقضية، فإن التحقيق مع سلامة “سري” للغاية ولن تكون هناك تسريبات، مؤكداً أنه حتى الساعة لم يتم الادعاء عليه بأي تهمة وأن توقيفه هو على ذمة التحقيق وقد يستمر لعدة أيام وقد يشمل توقيفات إضافية في الملفات التي يتم التحقيق فيها منهم مصرفيون كبار، مشدداً على أن القاضي الحجار يجري تحقيقاته بعيداً عن الإعلام ولا يتجاوب مع الضغوطات السياسية.

في المقابل، يعتبر مصدر مقرب من سلامة (طلب عدم كشف اسمه)، أن الأخير وقع ضحية “كمين” محكم نفذ قضائياً في لبنان بضغط من جهات فرنسية، وقال إن “الادعاء العام الفرنسي يواجه ضغوطات كبيرة بعد الادعاءات والملاحقات التي قام بها تجاه سلامة طيلة عامين حيث حجز على ممتلكاته وحساباته المصرفية في حين لم يستطع إثبات ادعاءاته”، في حين استطاع سلامة إسقاط الدعاوى والملاحقات ضده أمام القضاء الألماني.

وأكد أن جهات قضائية فرنسية حضرت إلى بيروت ومارست ضغطاً لتوقيفه، متهمين القضاء اللبناني بالتقاعس عن ملاحقته وقد أبرزوا صوراً لسلامة في مناسبات وأمكنة عامة، وذلك بهدف تبرير استمرار الادعاء الفرنسي، وقال “إضافة الى ذلك يتم تهديد لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي في حال عدم التجاوب مع المطالب الفرنسية.

موعد سري

وفي السياق يوضح الصحافي المتخصص في الشؤون القضائية يوسف دياب، أن سلامة وصل إلى النيابة العامة التمييزية ودخل فوراً إلى مكتب النائب العام التمييزي جمال الحجار، ليتبين أن الأخير سبق أن حدد له موعداً بشكل سري، وقد استجوبه على مدى ثلاث ساعات حول شبهات تتعلق باختلاسات من مصرف لبنان، وفي نهاية الجلسة اتخذ القرار بتوقيفه، وجرى نقله فوراً وسط حراسة أمنية مشددة إلى سجن قوى الأمن الداخلي في منطقة الأشرفية شرق العاصمة بيروت.

يكشف دياب بأن سلامة حضر إلى مكتب الحجار من دون محامٍ، وسأله الأخير عما إذا يريد مثول محامٍ معه فأجاب الحاكم السابق بأنه يتنازل عن حضور محامٍ، فبدأت جلسة الاستجواب التي انتهت بقرار التوقيف، لافتاً الى أن معلومات توفرت لدى الحجار حول شبهات قوية عن علاقة سلامة باختلاسات تقدر بـ 41 مليون دولار من البنك المركزي من خلال إنشاء شركات وهمية جرى تحويل الأموال من حسابات المصرف إلى حساباتها في لبنان والخارج.

وفيما ضج لبنان بخبر توقيف سلامة قبل ساعات، انتشرت صور قليلة له وهو في قصر بعبدا بعد انتهاء جلسة الاستجواب ورجح كثيرون أن يكون تم توقيفه مكبل اليدين بخاصة أنه ظهر وهو يحمل سترته لإخفاء التكبيل. 

ويكشف الصحافي القضائي أن النائب العام التمييزي يمكنه أن يبقي سلامة موقوفاً على ذمة التحقيق لمدة أربعة أيام قابلة للتجديد لمدة مماثلة، لكنه قد يطلب الادعاء عليه بجرائم (اختلاس الأموال العامة، والتزوير، وصرف النفوذ، وتبييض الأموال)، وإيداع الملف مع الموقوف قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي لاستجوابه وإصدار مذكرة توقيف وجاهية بحقه، وبالتالي سيبقى موقوفاً لفترة طويلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تدقيق جنائي

من جانبه يكشف الصحافي والكاتب منير يونس، أن شركة “كرول” أجرت تدقيقاً جنائياً دولياً ووضعت يدها على 45 عملية مصرفية بين شركة “أوبتيموم إنفست”، وهي شركة لبنانية تقدم خدمات الوساطة في الدخل وتعاملت مع البنك المركزي لشراء وبيع سندات الخزانة وشهادات الإيداع بالليرة، ومصرف لبنان ووصلت فيها العمليات إلى 8 مليار دولار، مضيفاً أنه في تقرير لشركة “ألفاريز مارسال” وضع اليد على ثلاث عمليات منها لشركة “أوبتيموم” بقيمة 111 مليون دولار تم تحويلها الى حساب “الاستشارات” حيث تبخرت.

وأوضح أن مصرف لبنان كان يقوم بعمليات وهمية عبر إقراض شركة “أوبتيموم إنفست” التي تعيد الأموال عبر اكتتاب سندات وبالتالي تستفيد من العمولات التي حققت لها أرباحاً غير مشروعة، لافتاً إلى أن الهدف المعلن لتلك العمليات إجراء هندسات مالية لتغطية عجز موازنات الدولة.

من جهتها، قالت الرئيسة التنفيذية لشركة “أوبتيموم إنفست” رين عبود، إن الشركة لم تستدعَ إلى جلسة، الثلاثاء، في ما يتعلق بتعاملاتها مع سلامة الذي جرى توقيفه بعد جلسة المحكمة لجرائم مالية مرتبطة بالشركة.

وأضافت لوكالة “رويترز”، أن “الشركة سمعت بتوقيف سلامة من وسائل الإعلام”، مشيرة إلى أنها “أجرت تدقيقاً مالياً في وقت سابق هذا العام، لتعاملاتها مع مصرف لبنان المركزي، ولم تجد أي دليل على ارتكاب الشركة أي مخالفات”.

“ثناء” وتشكيك

وفي السياق أثنى النائب فؤاد مخزومي، وهو كان من أبرز المطالبين بفتح ملف شركة ” أوبتيموم”، على خطوة القضاء، “الذي أخذ قضية رياض سلامة بقوة وشجاعة مشهودتين”، وقال “كنا قد أثرنا هذه القضية مرتين وفي مساءلتين وجهناهما إلى حكومة نجيب ميقاتي، وقبل أن تتحول إلى تصريف الأعمال ولكنها لم تقم بواحباتها، حتى أنها لم تقدم لنا مسوغاً واحداً يجعلها مترددة في تحمل مسؤولياتها حيال مقدرات اللبنانيين المالية”، مطالباً عدم التدخل بالقضاء وعدم التعدي على استقلاليته وترك المحاسبة في يد “نعتبرها أمينة على حقوق الناس واموال المودعين”.

وفيما يطرح كثيرون احتمالية أن تكر سبحة تسمية وتوقيف الفاسدين في لبنان، بخاصة أن سلامة عمل منذ تسعينيات القرن الماضي بتغطية سياسية من المسؤولين وعلى مستويات عالية ويقول متابعون إنه لن يقبل أن يكون وحده موقوفاً وسيفضح كل الأسماء الأخرى، شكك النائب جميل السيد بجدية التوقيف، سائلاً “ماذا تغير الآن بعد أن كان سلامة حتى الأمس القريب تحت الحماية السياسية والامنية التابعة للقوى الطائفية الكبرى في البلد”، وأضاف “هل توقيفه في لبنان جاء استباقاً لطلب توقيفه لصالح الإنتربول وترحيله موقوفاً إلى أوروبا، على اعتبار أن السيادة القضائية للدولة اللبنانية على مواطنيها تعلو السيادة الدولية بما سيمنع تسليمه للخارج قانوناً؟”.

وأضاف “لأن كل الاحتمالات واردة، والقضاء اليوم تحت مجهر الناس، فالمطلوب العدالة كلها والحقيقة كلها والشركاء كلهم، وليس مطلوباً الانتقام من رياض سلامة كشخص أو تقديمه كبش محرقة عن عصابة الدولة، سننتظر ونرى”.

كبش فداء

وبحكم دوره كحاكم لمصرف لبنان طيلة 30 عاماً، وهي أطول فترة حكم لمصرف مركزي في العالم، ودوره الأساسي في القرار المالي في البلاد، تحول سلامة الى “صندوق أسرار” حقبة ما بعد الحرب الأهلية وصولاً إلى الانهيار الاقتصادي المستمر منذ العام 2019 حيث لا تزال أموال المودعين محتجزة في المصارف اللبنانية، وقدرت حينها بنحو 143 مليار دولار تراجعت خلال السنوات الخمس الماضية إلى ما دون 90 مليار نتيجة إجراءات مصرفية.

إلا أن خشية اللبنانيين تكمن بأن يكون سبب توقيف سلامة هو إقفال “الصندوق” لعدم انفضاح أمر معظم الطبقة السياسية التي شاركت في حكم لبنان طيلة الأعوام الماضية، لا سيما أن أوساطه كانت قد كشفت سابقاً أن سلامة يحتفظ بـ “فلاش ميموري” سبق أن أرسلها إلى الخارج وفيها أسرار عمله، تصبح قابلة للنشر بشكل تلقائي في حال تعرضه “لأمر سيئ”.

وتتحدث أوساط قانونية أن إحدى أبرز المعضلات التي تواجه ملاحقة “الفاسدين” هي تشريع الفساد بقوانين لا سيما من خلال الموازنات العامة التي يصدق عليها مجلس النواب وكذلك المراسيم التي تصدرها وزارات المال، حيث لا يمكن صرف الأموال من دون المرور عبرها.

ملاحقات أوروبية

ومعلوم أن سلامة مدّعى عليه في قضايا أخرى تتعلق باختلاس أموال وتبييضها، وصدرت بحقه مذكرة بحث وتحرٍ تم بموجبها أيضاً منعه من السفر، وأن ملف “أوبتيموم” يعود إلى فترة ما بين 2014 و2018 ويرتبط بعمليات بيع مصرف لبنان لسندات وشهادات إيداع تم تضخيم عمولاتها واعتماد هوامش أعلى من المتفق عليها ومن نظام العمولات المعمول به في حالات مماثلة.

وكان سلامة (74 سنة) حاكماً لمصرف لبنان منذ 1993، وبات موضع ملاحقة في 5 بلدان أوروبية على الأقل بتهمة الاستيلاء على مئات الملايين من الدولارات من المركزي اللبناني على حساب الدولة اللبنانية وغسل الأموال في الخارج وصدرت بحقه مذكرتي توقيف في فرنسا وألمانيا (الأخيرة سحبتها قبل نحو 3 أشهر). وفي عام 2022، جمّدت فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ أصولاً بقيمة 120 مليون يورو يشتبه بأن ملكيتها تعود لسلامة وكان لا يزال في منصبه.

وسبق أن خضع لجولات عدة من التحقيق في قصر العدل في بيروت في قضايا انتهاكات وجرائم مالية بعدما تقدمت الدولة اللبناني بادعاء شخصي بحقه بجرائم الرشوة والتزوير وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرب الضريبي.

نقلاً عن : اندبندنت عربية