التخطي إلى المحتوى

ربما لم تسمعوا من قبل بـ”شركة جاب القابضة” JAB Holding Company، لكن هناك احتمالاً كبيراً في أن تكونوا قد زرتم أحد متاجرها. فهذه الشركة العملاقة المتمركزة في لوكسمبورغ التي يديرها أفراد من عائلة ريمان المنعزلة في ألمانيا، تملك مجموعة واسعة من المقاهي والمخابز في جميع أنحاء الولايات المتحدة وحول العالم. قائمة تلك المتاجر واسعة النطاق، وهي تشمل: “بيتس كوفي” (Peet’s Coffee) و”كاريبو كوفي (Caribou Coffee) و”آنشتاين بروس. بايغلز” (Einstein Bros. Bagels) و”بروغيرز بايغلز” (Bruegger’s Bagels) و”مانهاتن بايغل” (Manhattan Bagel) و”نوح نيويورك بايغلز” (Noah’s New York Bagels) و”كريسبي كريم” (Krispy Kreme) و”بريت مانجي” (Pret A Manger) و”إنسومنيا كوكيز” (Insomnia Cookies) و”بانيرا بريد” (Panera Bread). والحقيقة فإن الشركة اليوم باتت تفوح منها رائحة القهوة أكثر من “ستاربكس” نفسها.

وحتى عشاق القهوة الذين يحاولون إبقاء علاقتهم مستمرة مع المقاهي الصغيرة في الأحياء السكنية، يدفعون على الأرجح أموالاً لـ”جاب” لأن كثيراً من المتاجر (والمقاهي) المستقلة تشتري (حبوب) البن من محامص تملكها الشركة، منها محامص محلية مثل “ستامبتاون كوفي روسترز” (Stumptown Coffee Roasters) و”لا كولومب كوفي روسترز” (La Colombe Coffee Roasters) و”إنتيليجينتسيا كوفي” (Intelligentsia Coffee) و”غرين ماونتن كوفي” (Green Mountain Coffee).

وتبيع شركة “جاب” كذلك مباشرة إلى المستهلكين الذين يفضلون احتساء مشروبهم في البيت، عبر ملكيتها لـ “كويريغ دكتور بيبير” (Keurig Dr Pepper)، أحد أكبر صانعي كبسولات القهوة المستخدمة لمرة واحدة في الولايات المتحدة، ولشركة “ترايد كوفي” (Trade Coffee) التي تبيع البن وكبسولات القهوة (وبقية المنتجات المتعلقة بها) على الإنترنت.

وكانت شركة “جاب” (JAB) قد غدت أكبر متعهد ومزود للقهوة (ما عدا القهوة التي تباع في المتاجر) في غضون سبعة أعوام منذ شروعها في بيع البن وحبوب القهوة للمرة الأولى. وثابرت عائلة ريمان على تجنب التغطيات الإعلامية والظهور العام. وفي الحقيقة ثمة إشاعة تقول إن كل فرد من العائلة ومع بلوغه الـ 18 من عمره، يوقع على ميثاق يتعهد فيه بعدم إظهار وجهه للعموم، مما يفسر عدم إرفاق صور بأسمائهم الواردة في لائحة “فوربس” السنوية للأكثر ثراءً في العالم. فعائلة ريمان “بلا وجه” كما وصفت “ذا إيكونوميست”، وهم يتركون نجاح إمبراطورية القهوة التي بنوها يعبّر عن نفسه.

تاريخياً يعود ثراء العائلة إلى القرن الـ19، عندما تزوج لودفيغ ريمان، الجد الأكبر لأسرة ريمان اليوم، ابنة قطب كيماويات صناعية يدعى يوهان آدم بينكيسير (جاب JAB – حرف الـ J يلفظ بالألمانية ي، من هنا فإن الاسم يوهان، وليس جوهان). واستحوذ لودفيغ على الشركة عندما توفي يوهان، وبقيت تحت سيطرة العائلة على مدى أجيال.

ذرية لودفيغ، ألبرت ريمان الأب وابنه ألبرت ريمان جونيور، أدارا الشركة فيما كانت ألمانيا تسلك درب الفاشية. وكلاهما كان متشدداً في معاداة السامية، وغدوا عضوين في الحزب النازي ومؤيدين مبكرين ومتحمسين لأدولف هتلر، وفق ما كتبت كاترين بينهولد ضمن مقالتها الموسعة في صحيفة “نيويورك تايمز”.

ألبرت جونيور (الأصغر) اتبع هتلر مبكراً، أي منذ عام 1923، حين سمع الديكتاتور المستقبلي يتحدث في ميونيخ. حتى إنه كتب رسالة إلى هاينريش هيملير، المهندس الرئيس لـ”الهولوكوست”، واصفاً أفراد عائلته بأنهم “ميؤيدون مخلصون لنظرية العرق” وبأن شركتهم هي “شركة عائلة آرية صافية”.

 

بعد صعود النازيين إلى السلطة، أصبحت الشركة متورطة بصورة عميقة في سياسات النظام العنصرية. وقد عُدّ أحد مصانعها “منشأة [نازية] نموذجية”، حتى إن ألبرت الأب تولى مركزاً قيادياً في هيئة “أسهمت في تنسيق عمليات التنقية الآرية، ومصادرة واستبعاد الشركات والمصالح اليهودية”. وكلاهما، ألبرت الأب والابن، مارس التشغيل القسري، ليس فقط في المصانع التي يملكانها، بل أيضاً في بيوتهما. وفي أجواء التشغيل القسري تلك “أجبرت العاملات الإناث على الوقوف عاريات في وضع الانتباه خارج ثكناتهن، واللواتي يرفضن ذلك كن يتعرضن لاعتداءات جنسية”. وكان التشغيل القسري حينها شائعاً في أوساط الشركات الكبيرة مثل شركة آل ريمان، إلا أن مستوى سوء المعاملة هذا كان استثنائياً.

وعلى رغم معاداته الجامحة للسامية دخل ألبرت ريمان الابن في علاقة غرامية مع موظفة هي ابنة يهودي. ولدت إيميلي لانديكر لأب يهودي وأم كاثوليكية توفيت عندما كانت إيميلي في عمر السادسة. وفيما شهد والدها صعود النازيين إلى السلطة وجرد من حقوقه المواطنية، قرر حماية أولاده عبر تعميدهم وفق الإيمان الكاثوليكي، وسجل ملكيات العائلة بأسمائهم. ولأن والدها فقد حقوق العمل، تولت إيميلي دعم العائلة بعد حصولها على عمل في عمر الـ 19، بقسم المحاسبة في شركة عائلة ريمان. وعام 1942، قام جهاز الـ”غستابو” بترحيل والدها إلى معسكر اعتقال، لترتبط لاحقاً بألبرت ريمان الابن وتنجب منه ثلاثة أطفال. واليوم، أصبح اثنان من هؤلاء الأطفال مساهمين مهمين في شركة “جاب القابضة”.

تحدث ولفغانغ ريمان عن تجارب والدته قائلاً “لقد عاشت في خضم الرعب الحاصل في شركتنا”. ويذكر ولفغانغ في مقابلات مع صحيفة “نيويورك تايمز” كيف أن أمه إيميلي أسكتته عندما سأل عن جده اليهودي. وقال إن الأولاد (أولاد العائلة أمثاله) لم يعرفوا عن ماضي الشركة القذر إلى أن بدأت التقارير الإعلامية تطفو على السطح وتظهر.

 

في 2018، تناول تقرير صحافي قصة العلاقات التاريخية بين آل ريمان والنظام النازي. وبعد فترة قصيرة، قام أفراد العائلة الذين يملكون “جاب” بنشر تقرير مرحلي طلبوا إعداده للتحقيق في تلك العلاقات. وللتكفير عن ذاك الماضي أعلن مالكو “جاب” عن تبرع لمرة واحدة بمبلغ 10 ملايين يورو لمنظمات تساعد العمال القسريين السابقين وعائلاتهم. كذلك وعدوا بمنح 25 مليون يورو سنوياً لمؤسسة عائلتهم لتمويل مشاريع “تكرم ذكرى ضحايا الهولوكوست والإرهاب النازي”.

ويبدو ندم العائلة هذا صادقاً وتلقائياً، كما أن استعدادهم للإقرار علناً بذاك التاريخ القاتم يستحق الثناء. إلا أن هذا الموقف لم يتلقَّ منهم على الدوام دعماً بالأفعال، إذ حين قامت روسيا باجتياح أوكرانيا عام 2022، أوقفت شركات غربية عدة، بينها “ستاربكس”، عملياتها في روسيا مشيرة إلى مخاوف أخلاقية ومعنوية. لكن منذ أغسطس (آب) 2023 فإن “جي دي إي بيتس” (JDE Peet’s)، إحدى الشركات التابعة لـ “جاب”، لا تزال تعمل في روسيا، بالاستناد جزئياً إلى ذريعة أن القهوة تمثل عنصراً أساسياً “في الحفاظ على الصحة والحياة”.

و”جاب” في هذا الإطار ليست أبداً الشركة الوحيدة التي بنت ثروتها عبر دعم النظام النازي. فقد وصف تقرير صادر عن وزير الحرب الأميركي ألمانيا في عهد هتلر بأنها تهيمن عليها “شبكة واسعة من الاحتكارات الصناعية في الصلب والمطاط والفحم وغيرها من المواد”. ولا تزال كثير من هذه الشركات موجودة اليوم بصورة ما مثل “باير” Bayer و”دويتش بانك” Deutsche Bank و”سيمينس” Siemens. هذه الشركات العملاقة ومالكوها الأثرياء قاموا بدور أساسي في صعود النازيين، فعام 1947، وبعد فترة وجيزة من نهاية الحرب العالمية الثانية، أعدت مكتبة الكونغرس تقريراً تضمن تحليلاً للأسباب التي أدت إلى وصول النازيين إلى السلطة في ألمانيا. ووجد التقرير أن التكتلات الاحتكارية (الكارتلات) الكبرى مدّت الحزب النازي بدعم مالي أساسي في أوقات مفصلية.

 

شخصيات كألبرت ريمان جونيور وأمثاله أدركوا أنه لو قاموا بدورهم بمساعدة النازيين في الوصول إلى السلطة ومولوا آلتهم الحربية، فسيحصدون المكاسب. في هذا الإطار، وعلى نحو شبه مؤكد، فإن علاقات آل ريمان الوطيدة بالحزب النازي أثمرت مكاسب مالية كبيرة، فارتفعت مبيعات شركتهم بأكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الذي تلا وصول النازيين إلى الحكم.

سيكون من التبسيط لو عزونا صعود الفاشية في ألمانيا، وغيرها من الأماكن، فقط إلى الدعم الذي تلقته من الشركات الكبرى. لكن سيكون ساذجاً أيضاً إن تجاهلنا دور تلك الشركات. فتاريخ العلاقات الحميمة التي ربطت عائلة ريمان بديكتاتور إبادي يظهر ما يمكنه أن يحصل عندما تتبادل الشركات الكبرى والسلطات السياسية الدعم والمؤازرة على حساب عامة الناس. فالاحتكار والديمقراطية، على ما يبدو بجلاء، لا يتعايشان بسهولة.

بعد الحرب، قامت قوات الحلفاء المحتلة باعتقال ألبرت ريمان جونيور. وعلى رغم أن الأخير عبّر قبل شهر واحد من نهاية الحرب عن إيمانه بأن هتلر سينتصر، فقد عاد وتجاهل الادعاءات عن علاقاته مع النظام وتمسك بالقول إنه كان ضحية من ضحايا النازية.  وحاولت الحكومة الفرنسية حظر متابعة الأعمال على ريمان جونيور، إلا أن الأميركيين ألغوا ذلك الحظر.

خلال الأعوام الـ 30 التالية، أسهم ألبرت جونيور في إدارة الشركة. عندما توفي في 1984، ترك حصصاً متساوية لأولاده التسعة الذين أخذوا الشركة العامة ودمجوها في النهاية بشركة أخرى. ثم قاموا حينها بتأسيس “شركة جاب القابضة” لتكون آلية لاستثمار ثروتهم.

من خلال وفرة أموالها واستثماراتها الخارجية التي تتضمن هبات لجامعة ستانفورد وجامعة بنسيلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية – قامت “جاب” مباشرة بشراء شركات أخرى، مركزة في الحصول على أكبر عدد ممكن من الشركات العاملة بالقطاع نفسه ومن ثم دمجها في شركة عملاقة جديدة واحدة.

تاريخ العلاقات الحميمة التي ربطت عائلة ريمان بديكتاتور إبادي يظهر ما يمكنه أن يحصل عندما تتبادل الشركات الكبرى والسلطات السياسية الدعم والمؤازرة على حساب عامة الناس.

وركزت “جاب” بداية على العطور والمنتجات الفاخرة، لكنها خلال الأعوام الأخيرة انتقلت إلى التركيز على القهوة والمقاهي. ومع ازدهار المتاجر المستقلة وتطور الطلب على علامات تجارية متميزة، أظهر قطاع القهوة انتشاراً كبيراً وميلاً ابتكارياً، وهذه كلها علامات تنافسية صحية في هذا القطاع. بالتالي مثّل ذلك الاتساع في الاستثمارات والمشاريع المربحة فرصة مناسبة لـ”جاب”.

على أن وهم الاختيار هنا في هذا السياق يعني أنه حتى عندما يظن المستهلكون بأنهم يعتمدون علامة تجارية توحي ببعد محلي، وبأنها خيار مستقل، إلا أنهم في الحقيقة لا يشترون سوى من “جاب”، إذ إن قرابة ثمانية من كل 10 محال قهوة في الولايات المتحدة هي اليوم مملوكة من قبل ثلاث شركات فقط. وليس مفاجئاً أن تكون “جاب” إحداها. فثروة عائلة ريمان بلغت ذروتها خلال فترة توسع القطاع هذه، بمعدل عائدات سنوية يفوق الـ15 في المئة. وقدّرت “فوربس” الثروة الصافية لأربعة أفراد من آل ريمان عام 2022 بـ 23.2 مليار دولار، مما يجعل هذه العائلة واحدة من أغنى العائلات في ألمانيا.

وانطلق في هذا الإطار قطاع كامل للاقتصاديين الذين توظفهم الشركات المندمجة وتمولهم – لإعداد دراسات تظهر أن الاندماج سيؤدي إلى أسعار أدنى. ومن منطلق الاحترام لتلك الدراسات، غالباً ما تعمل الأطراف الحكومية على افتراض أن الشركات الأكبر يمكنها خلق “كفاءات” التي هي في العادة تعبير بديل ملطف لكلمة “تسريح” – ستقود إلى أسعار أدنى للمستهلكين. لكن في الحقيقة، وبدلاً من مساهمتها في تخفيض الأسعار، فإنها غالباً لا تقود إلا إلى مخصصات أكبر للمديرين التنفيذيين وأرباح أكبر للمساهمين.

 

وبكلام جيفري يونغ، المدير التنفيذي الرئيس لمؤسسة أبحاث دولية تتعلق بالقهوة، “فإنه لم يكُن هناك أبداً من قبل هذا التحكم الشديد بسوق القهوة، ولم يسبق للسلطة (في هذا القطاع) أن تركزت على هذا النحو …”.

وأنا شخصياً أدرك قيمة المشاريع المحلية الصغيرة، إذ إن والدتي، كاثي فريريك، وبعد أعوام من العمل كمزينة شعر، وبعدها في إدارة فرع من فروع سلسلة صالونات تزيين شعر وطنية، حلمت بأن تكون مديرة نفسها. وقرابة الوقت الذي بدأتُ فيه بالذهاب إلى المدرسة، قررت أمي افتتاح مخبز ومقهى قرب منزلنا.

لدي ذكريات واضحة عن مقدار العمل والجهد اللذين بذلتهما للانطلاق بمخبزها. وشعرت والدتي بفخر كبير في عملها وبذلت كل ما في وسعها لوضعه على سكة النجاح. وهي أنشأت علاقات مع زبائنها ونظمت المناسبات بالتعاون مع أصحاب ومديري المتاجر والمحال في جوارها. وقضت عائلتنا صباحات الآحاد في تنظيف المخبز والمقهى إنشاً إنشاً. تولى والدي تنظيف بلاطات الأرض، فيما كنا أنا وأخي نقوم بتنظيف الطاولات والكراسي البيضاء من كل البقع العالقة.

هناك مستوى من الاهتمام لا يظهر أبداً عندما يتمثل الهدف الوحيد عند المديرين التنفيذيين والمساهمين البعيدين، في تحقيق عائدات أفضل وأرباح أكبر، إذ إن الفارق كبير وأساسي بين سلاسل متاجر الشركات الكبرى، وبين المحال والمتاجر المحلية وأصحابها الذين يعيشون في الأحياء ذاتها التي يأتي منها زبائنهم وموظفوهم. أولادهم يذهبون إلى المدارس نفسها. وهم يستخدمون الخدمات العامة نفسها ويتعاملون مع المشكلات ذاتها. وعلى عكس عزلوية آل ريمان، فإن أصحاب المحال المحلية هم الوجه المعبر عن مشاريعهم ومصالحهم، فتكون مسائل كسمعتهم وصحة مجتمعاتهم أساسية في نجاح أعمالهم. وهم بالتأكيد لديهم حصة في الأماكن التي يخدمونها ويعملون بها، وتلك حصة لا تتاح أبداً للشركات الكبرى والعملاقة.

 

مقتطف من كتاب “البارونات: المال والسلطة وشركات قطاع الأطعمة في أميركا” للمؤلف أوستن فريريك.

نقلاً عن : اندبندنت عربية