يستدعي الأفارقة في شهر سبتمبر (أيلول) من كل عام مبادرات سابقة على غرار مشروع “إسكات البنادق” من أجل “قارة آمنة” لوقف تدفق السلاح بمختلف أنواعه على القارة السمراء التي تئن تحت وطأة عديد من الأزمات، لكن تبقى أخطرها الأزمة الأمنية التي تعرفها مناطق مثل الساحل والقرن الأفريقيين.
ويعد الساحل الأفريقي الذي يشهد حركات تمرد وأخرى متطرفة، من أكثر المناطق التي تعرف انتشاراً للسلاح، سواء الخفيف أو غيره، إذ قدرت دراسات سابقة هذا الانتشار بما لا يقل عن 35 مليون قطعة سلاح من مجموع 100 مليون في كافة أنحاء القارة.
والإجراءات التي حاولت هياكل أفريقية تكريسها من أجل الحد من انتشار وتدفق السلاح ليست وليدة اللحظة في الواقع. ففي عام 2006 على سبيل المثال توصلت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) إلى اتفاق “تنظيم إنتاج وتداول وحيازة المدنيين للأسلحة الصغيرة والخفيفة”، وهو اتفاق لا تزال حصيلته هزيلة.
دلالات مهمة
تتوزع الأسلحة المتفلتة في أفريقيا بين تلك التي تنتمي إلى ترسانات الجيوش المحلية أو أخرى مسروقة أو مستولى عليها من قبل ميليشيات أو عصابات خارجة عن سلطة الدول. وقادت الانقلابات العسكرية والتغيرات السياسية في عديد من الدول بأفريقيا إلى تأجيج التوترات، مما سمح بهفوات أمنية سهلت عمليات تدفق السلاح على القارة.
وقال الباحث السياسي المالي حسين آغ عيسى إن “استمرار تدفق الأسلحة إلى أفريقيا على رغم الجهود الدولية والأممية يثير دلالات مهمة عدة”. وأكد في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، “فشل النظام الدولي والإقليمي في فرض رقابة صارمة على توريد الأسلحة يعكس وجود ثغرات كبيرة في اتفاقات حظر الأسلحة قد تكون غير ملزمة بصورة كافية، أو لا تحظى بالتزام واسع”.
ولفت آغ عيسى إلى أن “هذا الفشل نفسه يعكس مصالح القوى الكبرى والإقليمية في إبقاء مناطق معينة في القارة في حالة اضطراب وصراع لتعزيز نفوذها الجيوسياسي والاقتصادي”. وشدد على أن “بعض الحكومات الأفريقية ضعيفة ولا تمتلك القدرات اللازمة للسيطرة على انتشار الأسلحة داخل حدودها أو منعها من الوصول إلى الجماعات المسلحة”. ونبه إلى أن “تصاعد الصراعات الأهلية والنزاعات العرقية والدينية المنتشرة في القارة، مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو والسودان وليبيا ووسط أفريقيا وغيرها، جعل الطلب يزيد على الأسلحة ومهد الطريق أمام شركات خاصة لتبيع الأسلحة بأسعار تنافسية”.
شركات محلية ودولية
تعمل شركات إقليمية وأخرى دولية على ضمان تدفق مستمر للسلاح على أفريقيا سواء للجماعات المسلحة أو الجيوش النظامية وتدفع القارة وأبناؤها ثمناً باهظاً لهذا الانتشار المكثف للسلاح.
وفي 2014 صنفت “بوكو حرام” أكثر جماعة إرهابية فتكاً في العالم، بعد أن قضى في هجماتها التي تستخدم فيها مختلف الأسلحة أكثر من 7 آلاف شخص. وحول مصادر تدفق السلاح على أفريقيا قال آغ عيسى إن “الشركات التي تزود القارة الأفريقية السلاح تراوح ما بين دولية ومحلية. وبصورة عامة تسهم هذه الشركات في تزويد الحكومات والميليشيات والجماعات المسلحة الأسلحة والمعدات العسكرية”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومضى في حديثه، “من بين الشركات المحلية هناك شركة جنوب أفريقية ومصنفة من أكبر شركات الدفاع الخاصة في القارة وتصدر إلى عديد من دولها”. وأضاف أن “من بين الشركات الدولية في المقابل نجد شركة روسية، وتعد موسكو مورداً رئيساً للأسلحة إلى عديد من الدول الأفريقية”.
مسؤولية القوى العظمى
الحديث عن ضرورة إسكات البنادق في أفريقيا التي تسعى إلى تحقيق استقرار يبدو صعب المنال، ويأتي في وقت يزداد فيه التنافس المحموم بين القوى الدولية الكبرى على النفوذ في مناطق مثل الساحل وليبيا والسودان، وهي مناطق ساخنة منذ سنوات.
وإثر موجة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها استعانت دول مالي والنيجر وبوركينافاسو بتحالف مع روسيا لخلافة فرنسا التي تم طردها، مما أفرز دخولاً قوياً لمجموعات عسكرية خاصة روسية على غرار مجموعة “فاغنر” و”لواء الدب”.
واعتبر الباحث السياسي الفرنسي رولان لومباردي أن “أحد الأسباب الرئيسة لفشل الجهود الدولية يكمن في انهيار هياكل الدولة في عديد من البلدان الأفريقية. ففي ليبيا ترك سقوط معمر القذافي عام 2011 فراغاً في السلطة، مما خلق حالة من الفوضى، حيث تتنافس ميليشيات متعددة وجماعات مسلحة والجهات الفاعلة الأجنبية للسيطرة على الموارد والأراضي، وسهل ذلك انتشار الأسلحة، سواء من مخزونات الجيش الليبي السابق، أو من الواردات السرية”.
وأوضح لومباردي أن “منطقة الساحل الأفريقي تشهد ديناميكية مماثلة، وتؤدي الحدود التي يسهل اختراقها، وغياب سلطة الدولة القوية، وظهور الجماعات الإرهابية أو المتمردة، المرتبطة غالباً بجهات إجرامية عابرة للحدود الوطنية، إلى تفاقم الوضع، وتستخدم هذه الجماعات تهريب الأسلحة لتعزيز نفوذها، مما يعقد أي محاولة للتنظيم الخارجي”. ويعتقد أن “القوى العظمى، سواء كانت غربية أو روسية أو شرق أوسطية، لديها مصالح استراتيجية في أفريقيا، وهي دائماً غير مهتمة بأفعالها وتداعياتها، وهم أيضاً المصنعون والبائعون الرئيسون للأسلحة، ودعونا لا ننسى هذا. وتقوم بعض الدول، وأبرزها روسيا، عبر شركات مثل (فاغنر)، بتوفير الأسلحة لأنظمة أو فصائل لكسب النفوذ وتتعزز هذه الظاهرة من خلال المنافسة الجيوسياسية على الوصول إلى الموارد الطبيعية الأفريقية، بخاصة الهيدروكربونات والمعادن”.
وأكد لومباردي أن “صادرات الأسلحة على رغم أنها غالباً ما تكون مخفية خلف الخطابات الإنسانية أو الأمنية، تعد أداة كلاسيكية للسياسة الواقعية، فهي تسمح لقوى معينة بتأمين الحلفاء أو العملاء المخلصين لذلك فمن الوهم الاعتقاد أن السيطرة الدولية، التي تقودها في كثير من الأحيان جهات فاعلة لها مصالح متباينة، قادرة على وقف هذا التدفق للأسلحة بصورة كاملة”.
عوامل أخرى
تؤدي الاضطرابات الأمنية وارتفاع نسب الفقر وتزايد التهميش إلى تفاقم ظواهر مثل التهريب والجريمة المنظمة والعابرة للحدود الوطنية، وهي ظواهر تشكل عاملاً آخر من عوامل انتشار السلاح في أفريقيا، بحسب لومباردي.
ويقول لومباردي إن “شبكات إجرامية متطورة في جميع أنحاء منطقة الساحل الأفريقي تعمل على ذلك، مما يسهل تهريب الأسلحة والمخدرات، وغيرها من السلع غير المشروعة، وتستغل هذه الشبكات ضعف الدولة والفساد لتحقيق الازدهار (…)، وكثيراً ما يتم التحايل على العقوبات أو عمليات الحظر الدولية من خلال هذه الشبكات، التي تستفيد أيضاً من التواطؤ المحلي والدولي”. وفسر بأن “أيضاً غياب نهج عالمي وواقعي لحل هذه المعضلة يزيد من تعقيدها، فعادة ما تفشل الجهود الدولية لأنها كثيراً ما تفتقر إلى التنسيق والتماسك، وكثيراً ما تكون مبادرات نزع السلاح أو تنظيم الأسلحة مجزأة، أو تفتقر إلى الموارد، أو لا تتكيف مع الواقع المحلي. علاوة على ذلك، تميل بعض القوى الغربية، الحريصة على عدم التورط بصورة مباشرة في هذه الصراعات، إلى تفويض إدارتها إلى البلدان الأفريقية المجاورة أو إلى المنظمات الإقليمية، التي تفتقر هي نفسها إلى الوسائل”.
مستقبل القارة على المحك
في ظل تعدد الصراعات وقيام تحالفات جديدة آخرها كان بين متمردي مالي والنيجر، فإن التساؤلات الملحة الآن تتمحور حول مستقبل أفريقيا، فعلى رغم المبادرات الرامية إلى تعزيز موقع القارة عالمياً وإرساء السلام المنشود داخلها، فإن الوضع الراهن يرسم صورة قاتمة عن مستقبلها. ويرى أنه “عندما يتعلق الأمر بمستقبل أفريقيا، وخصوصاً في مناطق مثل الساحل وليبيا والسودان، فإن الصورة قاتمة بالفعل، لكنها لا تخلو من الأمل، ومن الممكن أن يستمر عدم الاستقرار الحالي إلى أن تتم معالجة الأسباب الجذرية، بما في ذلك انهيار الدولة، والفقر والتطرف والتدخل الخارجي، بصورة جدية”. وقال إنه “مع ذلك فإن بصيص من الأمل يكمن في قدرة المجتمعات المدنية الأفريقية على الصمود، وصعود بعض المبادرات الإقليمية، مثل جهود المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا أو الاتحاد الأفريقي، التي تحاول إيجاد حلول داخلية لمشكلات القارة. ومع ذلك، يجب دعم هذه الجهود بنهج أكثر واقعية من جانب الجهات الدولية الفاعلة، التي تعترف بالديناميكيات الحقيقية على الأرض، ولا تكتفي بالحلول السطحية أو الاتفاقات الدبلوماسية غير القابلة للتنفيذ”. وشدد على أن “مستقبل القارة سيعتمد إلى حد كبير على قدرة الجهات الفاعلة الأفريقية نفسها على استعادة السيطرة على مصيرها، من خلال إصلاح أنظمتها السياسية وتنويع اقتصاداتها وتعزيز مؤسساتها، وأخيراً من خلال مكافحة الفساد، لكن من المؤسف أن استمرار الصراعات التي يغذيها انتشار الأسلحة، قد يتحول في المستقبل القريب إلى ظاهرة دائمة”.
واستنتج الباحث السياسي الفرنسي أن “الاستجابة لهذه المشكلة تتطلب اتباع نهج أكثر واقعية وعملية يركز على استقرار الدول الأفريقية والتنمية الاقتصادية وإدارة الصراعات المحلية، أما بالنسبة إلى القوى العظمى فيتعين عليها أن تدرك أن نهجها الانتهازي البحت لن يؤدي إلا إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار على المدى الطويل”.
أما حسين آغ عيسى فيعتقد أن “استمرار تدفق الأسلحة وتصاعد النزاعات يضع أفريقيا على المحك، لا سيما أن النزاعات المسلحة تؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي وتعزيز بيئة مناسبة لنمو الإرهاب والجريمة المنظمة”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية