أدى اختراق القوات الأوكرانية لمنطقة كورسك الروسية بالاعتماد على أسلحة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، واحتلالها مساحة تبلغ نحو ألف كيلومتر مربع من أراضي “الإمبراطورية” الروسية، إلى إذلال كبير لسيد “الكرملين” فلاديمير بوتين الذي يتهم الغرب كله، وعلى رأسه الحلف، بمحاولة إنزال هزيمة استراتيجية ببلاده، وهو ما فاقم التوتر المتصاعد أصلاً بين موسكو وبروكسل، وجعل احتمالات الصدام العسكري بين الجيش الروسي وقوات الـ”ناتو” أكثر احتمالاً وأشد واقعية.
وفي حين بقيت أولوية الجيش الروسي الاستيلاء الكامل على منطقة دونباس الأوكرانية للرد على الصفعة المؤلمة التي تلقاها في مقاطعة كورسك، يؤكد قادة عسكريون كبار على المستوى الدولي، أنه لم يتبق أمام بوتين إلا نحو ثلاثة أشهر لتحقيق أقصى قدر من التقدم في العمق الأوكراني، وإجبار القوات الهجينة التي استولت على 80 بلدة وقرية روسية في كورسك على الانسحاب مع حطام معداتها وأسلحتها الأطلسية، قبل أن يبلغ سيل غضب “الكرملين” الزبى ويلجأ إلى التهديد الجدي باستخدام الأسلحة النووية التي تجيز له عقيدته العسكرية استخدامها للدفاع عن أراضي البلاد التي تتعرض لهجوم مباشر لأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية قبل 79 عاماً.
الحسم قبل الشتاء
قال شون بيل، نائب المارشال المتقاعد في سلاح الجو الملكي البريطاني، والمحلل العسكري لشبكة “سكاي نيوز”، إنه مع بداية فصل الشتاء، سيصبح تنفيذ العمليات القتالية أكثر صعوبة. إضافة إلى ذلك يأمل فلاديمير بوتين أن يكون الرئيس الأميركي القادم هو دونالد ترمب، الذي قد يحاول لجم اندفاعة الـ”ناتو” للمواجهة مع روسيا، وبدء مفاوضات لوقف تمدد الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ فبراير (شباط) 2022 وتحولها إلى مواجهة شاملة بين روسيا والحلف.
وبانتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، استمر الهجوم الأوكراني على الأراضي الروسية للأسبوع الرابع على التوالي، وتصاعد مع إقدام أوكرانيا على توجيه عشرات الطائرات المسيرة يومياً لضرب العمق الروسي، بما في ذلك العاصمة موسكو. وبدا أن القوات الروسية غير قادرة على صد هذا الهجوم، أو حتى شن هجوم مضاد ينقذ هيبتها ويتيح لها استرجاع ما فقدته من أراض في هذه الهجمة المفاجئة وغير المتوقعة على واحدة من خواصرها الرخوة.
وأكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أن هذا الهجوم في منطقة كورسك لا يهدف إلى تحسين موقف بلاده التفاوضي، بل علامة على نقل المواجهة العسكرية إلى الأراضي الروسية وخوضها حتى نهاية هذه الحرب.
ومع أن الأوكرانيين أوضحوا أنهم لا يعتزمون احتلال الأراضي الروسية التي سيطروا عليها في مقاطعة كورسك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان لهذا أية علاقة بالمواقف التفاوضية، أو أنه، كما يبدو، يهدف إلى إحراج بوتين وإظهار أن كل شيء لا يسير بالطريقة التي تريدها روسيا، وأيضاً رفع معنويات الجيش الأوكراني الذي يخوض معركة يائسة في دونباس، وكذلك جميع الأوكرانيين الذين فقدوا ثقتهم بقدرة قوات بلادهم على استرجاع الأراضي التي ضمتها روسيا.
والسؤال هو كيف سيكون رد فعل بوتين الذي يتهم الغرب وحلف الـ”ناتو” تحديداً بالوقوف وراء هذا الهجوم المفاجئ على بلاده؟ هل سيحاول صد هذا الغزو وشن هجوم مضاد على القوات التي توغلت في مقاطعة كورسك؟ إن الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي نقل قسم من قواته من الخطوط الأمامية في دونباس مما سيخفف الضغط على الخطوط الأوكرانية الأمامية. ويبدو أن هذا ما يسعى حلف “الأطلسي” والرئيس زيلينسكي وقيادته العسكرية إلى تحقيقه. وهنا يتذكر الجنرالات الروس وبوتين كذلك تصريح الرئيس زيلينسكي الشهير الذي قال فيه لـ”الناتو”، “أحتاج إلى الذخيرة وليس إلى إخلاء مناطق أخرى”.
يعتقد معظم المحللين الغربيين، وكذلك جنرالات الـ”ناتو”، أن الدفاع الاستثنائي للقوات الأوكرانية أوقف تقدم روسيا نحو كييف ومنع الاستيلاء على أوكرانيا بأكملها. لكن منذ ذلك الحين أصبحت البلاد في حاجة ماسة إلى الأسلحة.
وتستخدم روسيا عائدات النفط لتصنيع أسلحتها وشراء أخرى من كوريا الشمالية وإيران، وضاعفت إنتاجها من الصناعات الدفاعية ثلاث مرات. وتحاول أوكرانيا أن تحذو حذوها، لكنها في حاجة ماسة إلى مزيد من الدعم الغربي، ليس فقط مالياً، بل وعسكرياً أيضاً. لقد سادت كييف خيبة أمل كبيرة حين أخر “الكونغرس” الأميركي الموافقة على مساعدات عسكرية بمليارات الدولارات لأوكرانيا. وهذا جعل وضع أوكرانيا صعباً للغاية، وكان من المحتمل أن يؤدي إلى الوضع الذي تجد أوكرانيا نفسها فيه الآن، إذ تواصل القوات الروسية تحقيق تقدم في منطقة دونباس.
استفزاز روسيا
قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، عقب نتائج اجتماع مجلس أوكرانيا والـ”ناتو” الذي عقد في بروكسل في الـ28 من أغسطس (آب) الماضي، إن الدول الأعضاء في الحلف ستعزز مساعداتها لأوكرانيا.
وأضاف، “أكد الحلفاء اليوم أنهم يزيدون المساعدات العسكرية لأوكرانيا. ويجب أن نستمر في تزويد كييف بالمعدات والذخيرة اللازمة للدفاع ضد الهجوم الروسي”. ونقل موقع التحالف على الإنترنت عن ستولتنبرغ قوله، إن “هذا أمر حيوي لقدرة أوكرانيا على مواصلة القتال”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعقد اللقاء على مستوى سفراء الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وانضم إليهم وزير الدفاع الأوكراني رستم عمروف عبر رابط فيديو. وقال الـ”ناتو”، إن أوكرانيا دعت إلى عقد الاجتماع لمناقشة الغارات الجوية الروسية الواسعة النطاق الأخيرة ضد المدنيين الأوكرانيين والبنية التحتية.
وأكد دبلوماسيون في دوائر الـ”ناتو” أن الاجتماع ناقش أيضاً العملية الأوكرانية في كورسك، وشجع المجتمعون أوكرانيا على ممارسة مزيد من الضغط العسكري على القوات الروسية في مقاطعة كورسك، باعتبارها خاصرة رخوة يمكن أن تشكل نصراً معنوياً لأوكرانيا والـ”ناتو”.
وأطلع الوزير عمروف المجتمعين على آخر الهجمات الجوية الروسية والوضع القتالي في دونباس وأهداف عملية كورسك. وقال دبلوماسي في الـ”ناتو” غير مخول بالتحدث إلى وسائل الإعلام “لقد شكر الحلفاء على التعهدات الأخيرة بالمساعدة وعلى طائرات (أف-16) أثناء العمل”.
وفي ليلة الإثنين الـ26 من أغسطس الماضي شنت القوات الروسية هجوماً واسع النطاق على مرافق البنية التحتية الحيوية في أوكرانيا، لا سيما قطاع الوقود والطاقة في البلاد. وذكرت القوات الجوية الأوكرانية أن القوات الروسية أطلقت 127 صاروخاً و109 طائرات من دون طيار هجومية ضد أوكرانيا في تلك الليلة. ونتيجة للمعركة المضادة للطائرات أسقط 201 هدف جوي – 102 صاروخ و99 طائرة من دون طيار هجومية.
ووفقاً لخدمة الطوارئ الحكومية في أوكرانيا، قتل سبعة أشخاص، توفي اثنان منهم في المستشفى، وأصيب 47 شخصاً، من بينهم أربعة أطفال ولدوا في أعوام 2014 و2017 و2024.
ويعتقد الغرب أن السياسة الروسية في التعامل مع الأزمة في أوكرانيا تحركها الطموحات الشخصية للرئيس فلاديمير بوتين، لكن في الواقع فإن ما أدى إلى هذه الأزمة هو توسع دائرة نفوذ الغرب نحو الشرق. وقد أدى هذا التوسع إلى خلق وضع محصلته صفر في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي، مع بقاء بعض البلدان أكثر ارتباطاً بروسيا من غيرها. وفي الأزمة في أوكرانيا كان أي زعيم روسي سيتصرف بالطريقة نفسها التي يتصرف بها بوتين، لأن موسكو تدافع عن مصالحها الوطنية الحيوية وأمنها القومي.
ذعر “الأطلسي”
عبر نائب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ميرسيا جيوانا، عن ذعر الحلف بعد كلمات وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي حول الحاجة إلى اعتراض الصواريخ الروسية فوق أوكرانيا، وقال إن من المعتاد أن يتشاور الحلف قبل التورط في شيء قد يكون له عواقب على جميع الأعضاء.
وفي وقت سابق، قال سيكورسكي في مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز”، إن الدول المجاورة لأوكرانيا، على رغم اعتراضات حلف شمال الأطلسي، “ملتزمة” بإسقاط الصواريخ الروسية القادمة قبل دخول مجالها الجوي.
وأضاف، “بالطبع، نحن نحترم الحق السيادي لكل حليف في ضمان الأمن القومي، لكننا في حلف شمال الأطلسي نتشاور دائماً قبل أن نتورط في شيء قد يكون له عواقب علينا جميعاً”، مذكراً بأن “الحلفاء البولنديين كانوا دائماً لا تشوبهم شائبة في المشاورات داخل الحلف”.
وأشار أيضاً إلى أن أعضاء الـ”ناتو”، على رغم “الحاجة إلى مساعدة أوكرانيا”، يجب أن يفعلوا كل ما في وسعهم لتجنب التصعيد.
وفي وقت سابق، قال وزير الدفاع الوطني البولندي فلاديسلاف كوسينياك كاميش، إن دول الـ”ناتو” متشككة في فكرة فلاديمير زيلينسكي بإسقاط الصواريخ الروسية فوق أوكرانيا.
وفي وقت سابق، شعر فلاديمير زيلينسكي بالإهانة من بولندا لخوفه من إسقاط الصواريخ فوق أوكرانيا من دون دعم مثل هذا القرار من جانب دول الـ”ناتو” الأخرى.
وسبق أن دعت كييف الرسمية الدول الغربية إلى إسقاط الصواريخ فوق أوكرانيا من أراضيها. وفي الوقت نفسه، صرح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ بأن سياسة الحلف لم تتغير ولن يشارك بصورة مباشرة في الصراع. وأشار مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي جيك سوليفان، إلى أن أوكرانيا نفسها يجب أن تكون مسؤولة عن عمليات الدفاع الجوي وحماية السماء، من دون الاعتماد على مشاركة قوات دول ثالثة.
تصعيد بأسلحة الـ”ناتو”
وعلى رغم محاولات الـ”ناتو” التنصل من مسؤوليته عن تصعيد الصراع، نفذت القوات المسلحة الأوكرانية ليلة الأول من سبتمبر (أيلول) الجاري، واحدة من أضخم الهجمات على أهداف على أراضي الاتحاد الروسي. وفي المجموع دمرت أنظمة الدفاع الجوي الروسية 158 طائرة أوكرانية من دون طيار معظمها من إمدادات دول الـ”ناتو”.
ووفق المعلومات الصحافية فقد تم تدمير واعتراض 46 طائرة من دون طيار فوق أراضي منطقة كورسك، و34 فوق منطقة بريانسك، و28 في منطقة فورونيج، و14 فوق بيلغورود. إضافة إلى ذلك اكتشف وتدمير ثماني طائرات من دون طيار فوق منطقة ريالان، وسبع فوق منطقة موسكو، وخمس في منطقة كالوغا، وأربع فوق ليبيتسك، وثلاث بمنطقة تولا، وطائرتان فوق موسكو، وأخريان فوق تامبوف وسمولينسك، وواحدة فوق كل من أورلوفسكايا وتفرسكايا وإيفانوفسكايا.
ووفقاً لحاكم منطقة بريانسك، وكنتيجة للتشغيل الذكي لأنظمة الدفاع الجوي، تمكنت المنطقة من تجنب عواقب غارات الطائرات من دون طيار. أما في منطقة تفير فقد حاولت الدرونات الأوكرانية مهاجمة محطة كهرباء منطقة كوناكوفسكايا الحكومية. ووفقاً لحاكم المقاطعة اندلع حريق في منطقة كوناكوفو نتيجة لذلك.
المفاوضات أولى الضحايا
قال المحلل السياسي التركي جوخون جوتشمن، إن المفاوضات لحل الصراع في أوكرانيا وصلت إلى طريق مسدود، لكن الوضع قد يتغير قريباً. وأعرب عن اعتقاده أنه “في ظل الظروف الحالية ستكون المفاوضات في شأن أوكرانيا أكثر صعوبة من ذي قبل”، مشيراً إلى أن السبب الرئيس لذلك هو الهجوم الأوكراني على منطقة كورسك. وفي رأيه فإن “روسيا سترد بقسوة على الخطوات الموجهة ضد سيادتها وسلامة أراضيها”.
ووفقاً له، هناك حجر عثرة آخر في المفاوضات الأوكرانية هو أنه على رغم “المطالب الأخيرة من أوكرانيا لإجراء مفاوضات مع روسيا، لم يتخذ أية خطوات حقيقية”.
وأضاف، “بما أن أوكرانيا لم تغير القانون الذي يحظر المفاوضات مع روسيا، أعتقد أن زيلينسكي يريد المماطلة بعض الوقت حتى الانتخابات الأميركية. من ناحية أخرى، على رغم أن المفاوضات اليوم تبدو وكأنها وصلت إلى طريق مسدود، فإن خسائر الجيش الأوكراني في ساحة المعركة واحتمال فوز ترمب في الانتخابات الرئاسية قد تضع سيناريو مختلفاً على جدول الأعمال”.
ويعتقد جوتشمن أنه في حال فوز الرئيس السابق والمرشح من جديد للمنصب دونالد ترمب، فلن ينخفض الدعم الأميركي لأوكرانيا فحسب، بل سيتم الاعتراف بروسيا مرة أخرى محاوراً، وستنتهي السياسة، كما ستنتهي وحدة الغرب الجماعي، أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي .
واعتبر أن الاتحاد الأوروبي الذي لا يريد الاعتراف بأوكرانيا كمشكلة أوروبية لا مشكلة عالمية، سيقترب أيضاً من الحل بمرور الوقت. باختصار، على رغم أن المفاوضات تبدو الآن في طريق مسدود، فإن هذه الصورة قد تتغير على المدى المتوسط.
وبعد الهجوم الذي شنته القوات المسلحة الأوكرانية على منطقة كورسك، أعلن الرئيس بوتين بصراحة، أن من المستحيل التفاوض مع أولئك الذين يهاجمون المدنيين أو البنية التحتية المدنية أو يحاولون خلق تهديدات لمنشآت الطاقة النووية.
الهزات الارتدادية للانهيار
الآن ليست القوة الأوروبية هي التي تعمل على توسيع وجودها في الفضاء ما بعد السوفياتي، بل منظمة حلف شمال الأطلسي الموروثة من أيام الحرب الباردة. ووفقاً لمنطق بروكسل وواشنطن، تتمتع دول ما بعد الاتحاد السوفياتي بالحق السيادي في اختيار التحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي ترغب في الانضمام إليها. مع ذلك، فإن الدول الكبيرة التي تجد نفسها خارج الـ”ناتو” تطرح السؤال التالي: ما هو دور هذه المنظمة في القارة، ومن الذي تنوي الدفاع ضده؟ ونتيجة لذلك بدأت لعبة محصلتها صفر في أوروبا بين روسيا وحلف شمال الأطلسي ـ ولكن لم تبدأها موسكو.
لقد صور الـ”ناتو” كتحالف دفاعي ضد الاتحاد السوفياتي. لكن هذا الوهم انكشف بعد انهيار الاتحاد، كانت هناك محاولة لإضفاء وظائف عالمية على إمكانات قوات الـ”ناتو”، كما لو أن الحلف “سيدافع” عن نفسه ضد تهديدات من جميع أنحاء العالم. ففي الأعوام الـ20 الماضية “دافع” حلف الأطلسي عن نفسه مرتين بشن هجوم واسع ضد يوغوسلافيا، فضلاً عن أفغانستان وليبيا.
ففي عام 2003 جادل أعضاء الحلف حول ما إذا كان من الضروري “الدفاع” ضد العراق، وفي النهاية قرر أكثرهم نشاطاً أن الأمر يستحق ذلك. وفي سياق الأزمة الأوكرانية أشار نائب الأمين العام لحلف ألكسندر فيرشبو، إلى أن الـ”ناتو” يعد روسيا تهديداً. وكرر ما قاله قبله المشرعون الأميركيون وقادة دول البلطيق وبولندا.
ويعتقد الغرب أن رد فعل روسيا كان بمثابة استجابة متهورة لفشل سياستها في أوكرانيا. لكن فيكتور يانوكوفيتش، مثل أسلافه، لم يكن من الزعماء الموالين لروسيا. وكان يانوكوفيتش هو من أطلق اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.
وكانت الاستراتيجية الأوكرانية الحقيقية التي اتبعتها روسيا تتلخص في سحب مصالحها الرئيسة من النفوذ الأوكراني. ولهذا السبب قامت روسيا ببناء قاعدة جديدة لأسطول البحر الأسود في نوفوروسيسك، وخطوط أنابيب غاز جديدة تتجاوز أوكرانيا (السيل الشمالي 1 و2)، ونقل أصولها العسكرية من الشركات الأوكرانية إلى البلاد، وتشجيع هجرة السكان الروس. وفي غضون جيل واحد سيتم حل كل هذه المهام واسعة النطاق، لكن في الوقت الحالي تحاول روسيا إبطاء تدمير اعتمادها المتبادل مع أوكرانيا.
لا يفهم الجميع في الـ”ناتو” أن دول منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي هشة للغاية. فالاستفزاز الخارجي يؤدي إلى تدمير الاستقرار السياسي في هذه البلدان، بالتالي تدمير ظروف النمو الاقتصادي. وهذا يمنع دول ما بعد الاتحاد السوفياتي من تجاوز فخ الدخل المتوسط بسرعة والوصول إلى مستوى الدول الأوروبية المتقدمة. إن الرخاء يؤدي إلى الديمقراطية، وليس العكس.
ويبدو أن سكان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذين شهدوا التكامل والتنمية السريعين على مدى جيل واحد، يتصورون أن العالم أجمع يعيش على الإيقاع نفسه الذي يعيشونه. ومع ذلك، خلال كل هذه السنوات، في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، كانت هناك عمليات عكسية منها تفكك المجتمع ومحاولات منع الصراعات ذات الصلة.
في الوقت نفسه، لم يكن انهيار الاتحاد السوفياتي مصحوباً بتسوية عميقة بين المشاركين السابقين، على غرار النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، إعادة توزيع الحدود، وتبادل السكان، والمعاهدات التي تضمن الوضع الراهن الجديد، استمرت دول الاتحاد في العيش سنوات عدة كجزء من دولة واحدة. لقد كان انهيار الوحدة سبباً لتفجر صراعات حدثت بسرعة قياسية.
وفي الأعوام الأخيرة، سعت روسيا إلى استعادة مكانتها باعتبارها القلب الديناميكي لأوراسيا. وفي أوكرانيا اصطدمت هذه العملية بتوسع منطقة نفوذ الغرب نحو الشرق.
والواقع أن الولايات المتحدة هي التي دبرت الانقلاب في كييف. لكنهم تصرفوا كانتهازيين وقرروا استغلال الوضع لتعزيز مواقفهم. وهكذا أسهموا في انقسام المجتمع الأوكراني وعززوا القوى السياسية غير المسؤولة داخله. وسعت الحكومة الجديدة في كييف إلى استخدام الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لمحاربة روسيا بالطريقة نفسها التي استخدمها الرئيس الجورجي الأسبق ميخائيل ساكاشفيلي الذي هاجم القوات الروسية في أوسيتيا الجنوبية عام 2008.
ومن خلال دعم التكامل الأوروبي الأطلسي في أوكرانيا، يعمل الغرب على تمزيق البلاد وإحداث ضرر لا يمكن إصلاحه لعلاقاتها مع روسيا. ومن مصلحة كافة الأطراف أن تبدأ في الاتفاق على الشكل الذي قد تبدو عليه قواعد الاشتباك في أوروبا وكيفية تحقيق مستقبل مستقر لأوكرانيا.
فإلى أي مدى تخطط القوات الأوكرانية للتوغل داخل الأراضي الروسية؟
كشف الرئيس زيلينسكي أيضاً عن بعض الأهداف العسكرية للهجوم على مقاطعة كورسك الروسية. وقال إن هذه العملية تهدف إلى منع الغزاة من مهاجمة سومي. ووفقاً له فإن هذا الهجوم منع روسيا من الاستيلاء على المدينة.
الـ”ناتو” يحاول استخدام أوكرانيا لحشر روسيا وإحراجها وزعزعة ثقة مواطنيها بقيادتها، لكنه يتجاهل أن لدى موسكو موارد أكثر بكثير مما يستطيع هذا الحلف إمداد أوكرانيا به، وهي أكثر ثراء، ولديها جيش أكبر. وإذا وجدت أوكرانيا نفسها في معركة استنزاف مع الروس، إذ يقاتل الجنود بعضهم بعضاً بأعداد كبيرة، فسيكون من الصعب للغاية على أوكرانيا أن تفوز بمثل هذه المعركة. لذلك شجع الـ”ناتو” أوكرانيا على اللجوء إلى طرق ذكية في شن الحرب باستخدام التكنولوجيا والابتكار والمفاجأة والخداع.
اعتقد الرئيس زيلينسكي، مع جنرالاته، أنهم نفذوا عملية التوغل داخل روسيا بفعالية كبيرة تفوق ما توقعه الغرب منهم، ومن المرجح أن الرئيس بوتين لم يكن مستعداً لهكذا هجوم مفاجئ على خاصرة رخوة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو إلى أي مدى يمكن لأوكرانيا أن تتوغل في عمق روسيا الشاسعة؟ لأنه يبدو أن هذا التوغل البسيط أجج مشاعر الأوكرانيين وجعلهم يعتقدون أنهم أقوى من الإسبارطيين، لدرجة أن إحدى الصحافيات العاملات في مجال الإعلام بأوكرانيا قالت بفخر، إنها تود رؤية العلم الأوكراني في وسط موسكو. من المؤكد أن هذا طموح وهمي خادع، فبعدما عمدت القوات الأوكرانية لتفجير ثلاثة جسور كبيرة فوق نهر “سيم” يبدو أن هذا يضع الحد الأقصى للمدى الذي يريدون التوغل فيه داخل روسيا.
لذا فإن السؤال الرئيس هو كيف يمكن الحصول على موطئ قدم وجعل من الصعب قدر الإمكان على روسيا استعادة السيطرة على هذه الأراضي؟ وطالما بقيت القوات الأوكرانية على الأراضي الروسية، فإن ذلك يضع الرئيس بوتين في موقف حرج، ويهينه، ويظهر أنه ليس ضامناً للأمن. فالغرب يتخيل أن زيلينسكي يمكنه أن يجعل حياة بوتين غير مريحة قدر الإمكان.
فرصة بوتين
عندما انكفأت روسيا عن هدف الاستيلاء على كييف في ربيع عام 2022 بإغراء التنازلات التي قدمها الأوكرانيون في مفاوضات إسطنبول قبل أن يتراجعوا عنها بضغط من الغرب، أعادت النظر في أهداف عمليتها العسكرية في أوكرانيا، ويبدو أنها حصرت هدفها في استعادة شبه جزيرة القرم وضم دونباس والجسر الإقليمي بينهما. وفي الوقت الحالي تقع معظم هذه الأراضي بالفعل تحت السيطرة الروسية، باستثناء جزء بسيط من دونباس. لكن بعد التوغل الأوكراني في كورسك ربما لم تعد هذه الأهداف أولويات بالنسبة إلى بوتين الآن.
لكن من الصعب للغاية إجراء عمليات قتالية خلال الشتاء الأوكراني البارد. لذلك أمام قوات بوتين ما بين 10 و12 أسبوعاً لإحراز أكبر قدر ممكن من التقدم قبل بداية فصل الشتاء. لكن المشكلة تكمن في ضيق خيارات الوقت أمام الجانب الروسي الذي يأمل في أنه إذا عاد دونالد ترمب إلى السلطة، فقد يكون على استعداد للتفاوض لمحاولة وقف الحرب في الأقل، الأمر الذي قد يصب في مصلحة بوتين من دون أن يضطر لخوض حرب كبيرة ودموية ومكلفة.
سكرة النصر الموقت للجيش الأوكراني في كورسك، جعلت القائد السابق للقوات الأميركية في أوروبا الجنرال بن هودجز، يعتقد أن القوات الأوكرانية يمكنها التوغل داخل روسيا كما تريد. لكنه نسي أن إحدى الصعوبات التي تواجه دخول أراضي العدو هي تأمين قواتك. إن التوغل شيء والاحتفاظ بالأراضي التي تم التوغل فيها شيء آخر تماماً، كما هي الحال في لعبة كمبيوتر، ما عليك سوى مواصلة القتال. لكن واقع الحرب هو أنك تحتاج إلى سلسلة إمداد ضخمة لدعم مقاتليك بالوقود والذخيرة والأسلحة والغذاء وما شابه. وكلما انتقلت إلى أراضي العدو أصبحت سلسلة التوريد أطول، وأصبحت القوات المتقدمة أكثر عرضة للخطر. ونحن نعلم أن المراحل الأولى من الهجوم ضد روسيا شارك فيها بضعة آلاف من الجنود الأوكرانيين والمتطوعين الغربيين و50 دبابة قتالية، بما في ذلك بعض الدبابات الغربية. لكن بعد أن تمكنت أوكرانيا من اقتحام الحدود الروسية بسهولة نسبية في مقاطعة كورسك، تم تجنيد نحو 10 آلاف جندي إضافي.
أحد العوامل المقيدة هو الخدمات اللوجيستية، وهناك عامل آخر يتمثل في الافتقار إلى القوة القتالية التي تواجهها أوكرانيا حالياً. وتظل أولوية روسيا في دونباس، فكلما زاد عدد القوات العسكرية التي تنشرها أوكرانيا في الأراضي الروسية، قل عدد القوات المتبقية للدفاع عن دونباس، وهو ما قد يسهل على الجيش الروسي استكمال السيطرة عليها.
مع هذا، فإن احتلال القوات الأوكرانية لجزء يسير جداً من الأراضي الروسية، بطبيعة الحال، يضع بوتين في موقف حرج، إذ إن القوات الأوكرانية تحتل جزءاً من أراضي “الإمبراطورية” الروسية. ويبدو أن بوتين غير متعجل لإخراج المحتلين ويعطي الأولوية لاستكمال سيطرة قواته على دونباس، ثم قد يقرر التعامل مع هذا لاحقاً، فيحاول أولاً تأمين السيطرة على دونباس، ثم التعامل مع هذا الهجوم. ويبدو أن هذا هو بالضبط ما يفعله الآن.
وعلى رغم أن الكرملين يحاول التقليل من أهمية هذا الهجوم الأوكراني في منطقة كورسك، فإن مدى إيلام هذا الهجوم بالنسبة إلى بوتين واضح للعيان. وكلما أُجلي مزيد من الناس من منطقة كورسك، أصبح الوضع أكثر وضوحاً. فكل هؤلاء سيقولون إن أوكرانيا اقتحمت الأراضي الروسية، وربما يكون هذا موجعاً لبوتين الذي يدعي أنه الضامن للأمن، والآن لأول مرة منذ عام 1941 دخلت القوات المعادية الأراضي الروسية، وهذا يربكه ويؤذيه.
أميركا واليابان تصعدان التوترات
صرح مساعد الرئيس الروسي للشؤون البحرية نيكولاي باتروشيف، بأن الولايات المتحدة وحلفاءها يعملان باستمرار على تصعيد الوضع على طول حدود روسيا، ويختبران قدراتنا الدفاعية بصورة متكررة.
وأشار رئيس الهيئة البحرية الروسية إلى أن واشنطن تحاول عرقلة الأنشطة الروسية في القطب الشمالي، في حين تقوم هي نفسها بإنشاء بنية تحتية عسكرية بالمناطق الشمالية وبصورة عامة قرب الحدود الروسية.
وقال باتروشيف في مقابلة مع صحيفة “روسيسكايا غازيتا” أمس الإثنين “لقد حددت واشنطن مساراً لعسكرة القطب الشمالي وإعاقة أنشطتنا الاقتصادية في خطوط العرض الشمالية. وهناك دعوات في الغرب لإغلاق بحر البلطيق التابع لبلدنا وإمكانية الوصول إلى البحر الأسود، وأعلنه الـ(ناتو) منطقة لمصالحه الخاصة فقط”.
وذكر مساعد الرئيس الروسي أن المناورات البحرية الأميركية اليابانية الأكبر الأخيرة “أكدت مرة أخرى رفض طوكيو الأيديولوجية السلمية والولاء للاستراتيجية الأميركية لزيادة التوتر في المحيط الهادئ”.
وأشار باتروشيف إلى أن الولايات المتحدة حولت اليابان خلال أعوام ما بعد الحرب إلى “حاملة طائرات كبيرة غير قابلة للغرق” للسيطرة على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وفي الواقع تسند إلى هذا البلد دور الفرع الشرقي لحلف شمال الأطلسي.
وأضاف “لقد أغرقت (الولايات المتحدة) هونشو وأوكيناوا بالقواعد العسكرية. في الأساس تم تكليف البلاد بدور الفرع الشرقي لحلف شمال الأطلسي، وكجزء من تشكيل نموذج أميركي للأمن العالمي تبذل واشنطن جهوداً لتعزيز القوة العسكرية لقوات الدفاع عن النفس اليابانية”.
وأشار إلى أن طوكيو تزيد سنوياً التمويل والمعدات الفنية للجيش والبحرية وقال، “بينما قامت قوات الدفاع عن النفس البحرية أخيراً بمهمة قتالية فقط على طول الساحل وفي المناطق المجاورة للمحيط العالمي، تسمح الحكومة اليابانية اليوم للسفن بالقيام برحلات طويلة والمشاركة في التدريبات والعمليات العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة ودول الـ(ناتو)”.
وأكد مساعد الرئيس الروسي “إضافة إلى ذلك، يدعو السياسيون اليابانيون إلى تكريس تشريعي لحق قوات الدفاع عن النفس الخاصة بهم في تنفيذ ضربات، بما في ذلك الضربات الوقائية على أهداف عسكرية في الخارج”.
سباق تسلح
أظهرت الحرب الروسية – الأوكرانية للدول الغربية درساً مهماً، هو أنها في حاجة إلى احتياطات من الذخيرة والأسلحة للحرب، لأنه عندما تستمر الحرب لأكثر من أسابيع أو أشهر وتتواصل لأعوام ولا تكون هناك إمدادات كافية تتحول إلى حرب صناعية، إذ من المهم مدى السرعة التي يمكن بها إعادة تجهيز الصناعات العسكرية لدعم المجهود الحربي.
يتهم الغرب روسيا بأنها ضاعفت صناعتها الدفاعية ثلاث مرات، وتستخدم عائدات النفط لشراء أسلحة من إيران وكوريا الشمالية. ويعتبر أن أوكرانيا تبقى هدفاً للصواريخ الروسية، وهذا أمر صعب جداً عليها. ولكي تستمر أوكرانيا في مقاومة هذا العدوان، يتعين على هذا الغرب الحريض على تأجيج النار أن يستمر في دعمها مالياً وعسكرياً.
وفقاً لصحيفة “الـغارديان”، تطلب أوكرانيا من الحلفاء الغربيين السماح للقوات المسلحة باستخدام صواريخ “كروز” طويلة المدى من طراز “ستورم شادو” (Storm Shadow) لضرب أهداف عسكرية قرب موسكو وسان بطرسبورغ. ويعتقد الجيش الأوكراني أنه بهذه الطريقة يمكنه إجبار موسكو على الجلوس إلى طاولة المفاوضات وإنهاء الحرب.
في بداية القتال كان الغرب متردداً للغاية في تقديم دعم العسكري لأوكرانيا يطاول الأراضي الروسية، لأنه كان يخشى الانجرار إلى الحرب. فأوكرانيا ليست عضواً في الـ”ناتو” بعد، ويعتقد كثر أنها ستقع بسرعة تحت الضغط الروسي.
ومنذ ذلك الحين، بدأ الغرب تدريجاً في تقديم الأسلحة المضادة للدبابات. وبعد مرور بعض الوقت، وبفضل القيادة البريطانية، تم توفير الدبابات أخيراً. لقد قدم الغرب ليس فقط دبابات “تشالنجر 2″، ثم “ليوبارد 2″، بل شاركت الولايات المتحدة في النهاية بتقديم أسلحة نوعية بعيدة المدى، وأخيراً طائرات مقاتلة.
لكنها كانت عملية بطيئة، ويدرك الغرب أنه إذا تدخل بصورة مباشرة فإن ذلك قد يجره لحرب يريد تأجيجها من دون المشاركة المباشرة فيها، فهو لن يتمكن من القتال على قدم المساواة مع القوات الروسية. ويوضح الحلف أنه لا يريد اللعب وفقاً لخطة بوتين. إنه في حالة حرب ليس فقط مع أوكرانيا، بل وأيضاً مع الغرب بسبب خطر نشوب صراع نووي، لذلك حتى الآن تم رسم الخط الدقيق بين مقدار القدرات العسكرية التي يمكن توفيرها وأين يمكن استخدامها.
من وجهة نظر المملكة المتحدة، تعتبر لندن أن أوكرانيا تستخدم الأسلحة المنقولة وفقاً للقانون الإنساني الدولي، لذلك فهي ليست قلقة حيال كيفية استخدامها.
لكن الولايات المتحدة كانت أكثر حذراً في شأن هذه القضية، وبخاصة في ما يتعلق بصواريخ “أتاكمس” (ATACMS). في النهاية، وبعد بدء عملية القوات المسلحة الأوكرانية بمنطقة كورسك، عقدت الولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة اجتماعات مع بعض شركائها الغربيين وقالت إنهم لا يستطيعون السماح لدولة واحدة بالقيام بشيء واحد والدول الأخرى القيام بشيء آخر لأن الجميع أعضاء في حلف شمال الأطلسي.
بريطانيا تلعب بالنار
في ما يتعلق بهذا الموضوع، تدعم لندن توجيه ضربات بأسلحتها إلى عمق روسيا، لكن هناك فارقاً بسيطاً مع الولايات المتحدة. فهناك اتفاق بينها وبريطانيا وفرنسا وعديد من الدول الأخرى. ولكي تسمح أي دولة باستخدام صواريخها البعيدة المدى في عمق روسيا لا بد من اتفاق بين الجميع. وهذا يأتي مع خطر التصعيد، وهو موضوع حساس للغرب الذي يخشى الانزلاق إلى حرب دموية مكلفة.
بعد “كوفيد” أنفقت مختلف الدول كثيراً من المال لإبقاء الناس في وظائفهم، ثم واجه العالم أزمة الطاقة. وفي بداية الحرب في أوكرانيا كانت بريطانيا هي صاحبة أكبر القروض على مدى أجيال عديدة.
لكن وعلى رغم المشكلات المالية الكبيرة في الداخل، تخصص لندن مبالغ كبيرة من المال والدعم العسكري لأوكرانيا، مدركة أن هذا الدعم مهم للغاية. لكن هذه ليست الأولوية الوحيدة للحكومة البريطانية. ويجب عليها أيضاً ضمان الدفاع عن بلادها ومنع انتشار التهديد الروسي. لذلك تعتقد أن حلف شمال الأطلسي هو جزء أساس من هذا، وأن لدى لندن أيضاً دوراً تلعبه في تأجيج نار الحرب جنباً إلى جنب مع حلفائها في الـ”ناتو”.
بريطانيا سبقت دول الـ”ناتو” الأخرى إلى صب الزيت على نار الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وأظهرت نفسها بصورة حاسمة للغاية، لأن الدول الغربية لم ترغب في تقديم الدبابات لكييف. لقد اعتقدوا أن الأمر سيكون استفزازاً لروسيا. لكن رئيس الوزراء البريطاني آنذاك قرر أنه في حاجة إلى أخذ زمام المبادرة فقام بتزويد أوكرانيا بدبابات “تشالنجر 2″، وسرعان ما انضمت أوروبا لتزويدها بدبابات “ليوبارد 2” وحذت الولايات المتحدة حذوها.
وقدمت المملكة المتحدة صواريخ “ستورم شادو”. وكانت أول من قدم صواريخ “كروز” بعيدة المدى لأوكرانيا. و”الكرملين” واثق من أن المملكة المتحدة ستكون دائماً واحدة من طليعة الدول في دعم أوكرانيا بمواجهة روسيا، والمشاركة بنشاط والحفاظ على نهج سلبي تجاه أية محاولة لوقف الحرب من طريق المفاوضات. والجنرالات الروس واثقون من أن المملكة المتحدة ستبذل كل ما في وسعها لتزويد أوكرانيا بالأسلحة التي تحتاج إليها وإزالة أية قيود على استخدامها بالطريقة التي يرغب بها الرئيس زيلينسكي.
قبل استخدام الأسلحة الغربية البعيدة المدى وتوغل القوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك، كان معظم الروس يعيشون ببساطة حياتهم الطبيعية ويصدقون ما قرأوا عنه في وسائل الإعلام، من دون أن يدركوا أن الحرب كانت تحدث في أوكرانيا.
لكن الصواريخ الغربية البعيدة المدى والاستخدام الفعال للطائرات من دون طيار من قبل أوكرانيا جعلت الحرب تنتقل إلى الأراضي الروسية حتى وصلت إلى موسكو. ربما لم تتسبب في أضرار جسيمة، لكن هذا ليس الهدف بل جعل المواطن الروسي يدرك أن بلاده تخوض حرباً، وأن الخطر يمكن أن يلاحقه في بيته.
إضافة إلى ذلك، فإن أوكرانيا فعالة للغاية في استخدام الطائرات من دون طيار لتدمير البنية التحتية النفطية الروسية. ويعد النفط والغاز مصدري الدخل الرئيسين لروسيا، اللذين يمولان جهودها الحربية. لقد حققت أوكرانيا نجاحاً كبيراً في استهداف هذه الأهداف.
مآلات الحرب
لقد مرت سنتان ونصف السنة على بدء الحرب الروسية – الأوكرانية، ولا يعتقد أي شخص أن أوكرانيا أو روسيا قادرة على الفوز بنصر ساحق فيها في ظل هذا الموقف. لقد أجبر الملايين من الناس على الفرار، ومات مئات الآلاف، ودُمرت مدن بكاملها، بسبب صب الغرب الزيت على نار هذه الحرب.
ربما اعتقد بوتين أنه يستطيع الدخول إلى أوكرانيا والاستيلاء عليها خلال أسابيع. لكنه كان مخطئاً. والسؤال الآن ليس من سيفوز، بل كيف سينتهي كل ذلك. وهذا هو ما يتعين على أوكرانيا أن تقرره. وسيكون تحرير الأراضي التي خسرتها بأكملها أمراً صعباً للغاية لأسباب مختلفة. لكن الغرب لا يزال يوسوس لها بأنها قد تتمكن من تحقيق هذه الغاية بدعم كبير منه.
الغرب ليست لديه إمدادات غير محدودة من الأسلحة. وحتى لو وصلت كل الأسلحة اللازمة فإن أوكرانيا تفتقر إلى الجنود والموارد، ويتعين عليها إيجاد قوات جديدة وجذب مزيد من الناس للقتال على الخطوط الأمامية. وكلما زاد عدد الأشخاص المشاركين في الحرب أصبح تدريبهم أسوأ، وهذا يجعل الوضع أكثر صعوبة. لذلك يجب في مرحلة ما تحقيق السلام أو تحمل تبعات توسع الحرب وتحولها إلى مواجهة مفتوحة بين روسيا والـ”ناتو”.
نجحت أوكرانيا في العثور على احتياطات كافية في الغرب لإجراء عملية في عمق روسيا. ولم يتوقع بوتين كما عدد من الخبراء الروس أن تجد أوكرانيا احتياطات لهذه العملية لدى الغرب الذي يعاني نفاد ذخائره ومعينه العسكري.
حاول بوتين وقف توسع الـ”ناتو” باتجاه حدود بلاده. لكن الحلف توسع وضم أخيراً جارتي روسيا فنلندا والسويد اللتين حافظتا على حيادهما حتى في عز احتدام الحرب الباردة. كما حاول أن يجعل من روسيا دولة عظمى مرة أخرى. لكنه اصطدم بإصرار الـ”ناتو” على إلحاق هزيمة استراتيجية بها وتحجيمها ومنعها من العودة للعب ذلك الدور الذي لعبه الاتحاد السوفياتي بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
يحاول الغرب إفهام بوتين أن روسيا كانت مجرد ظل شاحب للغاية لنفسها. والآن تم توجيه الاتهام إلى الرئيس الروسي في المحكمة الجنائية الدولية، وجرى فرض 14 حزمة من العقوبات القاسية على كل الروس.
ويحث الغرب الأوكرانيين أيضاً على قطع جسر القرم. لقد حاولوا هذا في الماضي. وسيحتاجون أيضاً إلى إثبات قدرتهم على تدميره بأسلحة وصواريخ غربية. فإذا تعرض هذا الجسر للخطر مجدداً فقد يفكر بوتين في توسيع الحرب واستخدام الأسلحة النووية التكتيكية فيها.
من علامات ذلك إعلان وزارة الخارجية الأوكرانية أن بيلاروس تحشد قوات واحتياطات قرب الحدود. ففي بداية هذه الحرب نشر بوتين قوات روسية في بيلاروس، وكانت هناك تكهنات بأنهم قد يعبرون الحدود مع القوات البيلاروسية.
على رغم الاختراق المحدود للأراضي الروسية في مقاطعة كورسك، فإن أوكرانيا تخسر الحرب في الميدان، لكن زعماء الغرب لا يرفضون الاعتراف بهذه الحرب فحسب، بل ويرفضون أيضاً تحمل المسؤولية عن إنهائها. وقد عبر عن هذا الرأي الاقتصادي الأميركي جيفري ساكس في مقابلة مع تاكر كارلسون. أوضح البروفيسور لماذا من العدل القول إن الولايات المتحدة الآن في حالة حرب نشطة مع روسيا، وحذر أيضاً من أن المرتزقة الغربيين في أوكرانيا “يشكلون سبباً كبيراً للقلق”.
من وجهة نظر عسكرية تبدو العملية الأوكرانية في كورسك محفوفة بأخطار مواجهة مباشرة بين الـ”ناتو” وروسيا. ومن الناحية السياسية قد تكون هذه العملية بمثابة مقبرة لأية مفاوضات محتملة لإنهاء الحرب، وفي كل الحالات فإن اختراق أوكرانيا الأراضي الروسية بأسلحة غربية يعد علامة فارقة سوداء في تاريخ العلاقة المعقدة أصلاً بين موسكو وبروكسل وواشنطن.
نقلاً عن : اندبندنت عربية