التخطي إلى المحتوى

بين عامي 1810 و1813، كان جواكينو روسيني، بالكاد تجاوز الثامنة عشرة من عمره، حين بدأت ملامح موهبته الموسيقية الفائقة بالظهور. بل ظهرت في ذلك الحين حرفته التقنية التي أدهشت كل المحيطين به، كما أدهشت الجمهور العريض. وفي هذا الإطار، أي بحثاً عن إثارة إعجاب هذا الجمهور، الذي كان اعتاد المسرح الهزلي الإيطالي الممتزج بالموسيقى، لحن روسيني خلال تلك السنوات القليلة أربع هزليات إيطالية من النوع الذي كان رائجاً في ذلك الحين. أي النوع الذي يعتمد الحبكات المسلية والتي تنتهي دائماً نهايات سعيدة، بعد أن تكون شتى ضروب سوء الفهم قد زرعت طوال ساعة تقديم العمل. إنها الحبكة الأدبية الخالدة منذ ولادة “الكوميديا ديل آرتي” حيث حكايات الحب والزواج والخيانة، والضربات المسرحية التي يلعب فيها الخدم الدور الرئيس. والحقيقة أن أوبرات روسيني الأولى تلك لم تكن تشذ عن هذه القاعدة، بل عن مسرحيات “الكوميديا ديل آرتي” المعروفة. غير أن الجديد هنا هو أن روسيني، في أي من تلك الأعمال الأربعة لم يضع موسيقى تزينية تصاحب الأحداث والحوارات والمواقف مترجمة إياها أحاسيس متتالية، كما جرت العادة في مثل هذا النوع من المسرح الفكاهي الموسيقي، بل أوجد ألحاناً ولحظات موسيقية عرفت كيف تعيش حتى الآن، بحيث يبدو دائماً أن النص والحوارات والمواقف، كلها رسمت كي تخدم البعد الموسيقي الذي صار، هنا، أساس العمل الفني.

كلاسيك ودراما وتاريخ

ينطبق هذا الكلام، على الأولى بين هذه الأعمال، والأولى التي لحنها روسيني إطلاقاً، وهي “تركيبة الزواج” كما ينطبق على “سنيور بروكينو” الرابعة في السلسلة، ولكن التاسعة في التسلسل التاريخي لأوبرات روسيني. ذلك أن هذا الفنان الملهم، عرف وهو في عز اشتغاله على الهزليات الأربع كيف يلحن أعمالاً تنتمي إلى أنواع أكثر كلاسيكية ودرامية وتاريخية. أما العملان الباقيان في السلسلة فهما “الالتباس العجيب”. وأخيراً “سلم من حرير”، التي لحنها عام 1812 ولا تزال تعتبر إلى اليوم أشهر أعماله وأكثرها ابتكاراً… من الناحية الموسيقية على الأقل. ذلك أن “سلم من حرير” لا تبرح، من ناحية موضوعها، عوالم الكوميديا ديل آرتي، ومسرحيات ترتيب الزيجات والخداع المتبادل، حين يلعب الخادم، كما في المسرح الهزلي التقليدي، الدور الحاسم في الأمور.

إذاً، على هذه الخلفية التقليدية، بنى روسيني، هذا العمل الذي كان من نوعية شائعة جداً في البندقية حين قدم للمرة الأولى في تلك الأزمان، أي بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن الذي يليه. وهو نوع كان من الناحية الشكلية يحكي حكاية حميمة، ويقدم من طريق ما لا يقل عن سبعة أو ثمانية أبطال مغنين، ومن بين هؤلاء، بالضرورة، عاشقان يسعيان جهدهما أول الأمر لإخفاء علاقتهما عن العيون. وقد يكون مفيداً أن نقول إن هذا النوع من العمل، كان في جانبه الهزلي على الأقل والذي عادة ما يمثله تدخل الخادم يترك مجالاً للارتجال، لبعض الممثلين، لا سيما للخادم.

والحقيقة أن أوبرا “سلم من حرير” تميزت بهذا البعد، إذ يمكن من يشاهد عروضها جيلاً بعد جيل، أن يلاحظ التغييرات التي يمكن لصاحب دور الخادم أن يدخلها تماشياً مع تبدل الظروف وتبدل نوعية المتفرجين، وتطور الحس الفكاهي عبر النكات والمواقف الشائعة التي يستفيد منها الممثل.

مشروع مرفوض

كما أشرنا، تدور أحداث “سلم من حرير” داخل بيت كبير سيده هو المدعو دورمون، الذي هو أستاذ الحسناء جوليا والوصي عليها. وهو انطلاقاً من هاتين الصفتين يسعى طوال الوقت، كما نفهم منذ بداية العرض، إلى تزويجها من المدعو بلانزاك. من الواضح أن هذا المشروع لا يلقى ترحيباً من جوليا، على رغم تمسك الكهل دورمون به. وذلك لأسباب عدة، أهمها – وأكثرها حسماً بالتالي – هو أن جوليا تزوجت منذ فترة، وفي شكل سري، من حبيبها الشاب دورفيل، الذي هو صديق بلانزاك الصدوق. ومن الواضح، إذاً، أن أحداً غيرها وغير دورفيل لا يعرف شيئاً عن حكاية الزواج هذه. ولسوف نعرف نحن، بسرعة، أن جوليا اعتادت أن تمد سلماً من الحرير من غرفتها في أعلى البيت، يتسلقه دورفيل كل ليلة كي يصل إليها. والزوجان قررا، كما نفهم أن تستمر هذه وضعيتهما، حتى يقتنع دورمون بأنها أبداً لن تتزوج بلانزاك، الذي لا يكف عن طلب يدها يومياً، إذ يأتي لزيارة المنزل، ودائماً في رفقة صديقه دورفيل… كل هذه الأمور نفهمها منذ لحظات الأوبرا الأولى. أما حين تبدأ الأحداث، فإننا نكون مع أهل الدار عند الصباح، أي في الوقت الذي يكون على دورفيل أن ينزل من غرفة زوجته على سلم الحرير كما اعتاد أن يفعل، لكن المشكلة هذه المرة تكمن في أن لوتشيلا، ابنة عم جوليا، متنبهة يقظة ترصد كل حركة وسكنة في البيت، بعد أن طلبت من خادم العائلة جرمانو، أن يراقب بدوره كل ما يدور حوله. وبسرعة نفهم أن بلانزاك هو الآن في طريقه إلى زيارة البيت ليحاول من جديد إغواء جوليا وطلب يدها. ولكن هذه المرة، من الواضح أن جوليا قررت تبديل أسس اللعبة: هذه المرة ستحاول أن توجه اهتمام بلانزاك ناحية لوتشيلا ابنة عمها، التي لا تقل عنها جمالاً… وستحاول أن تقنعه بأن لوتشيلا هذه، ستكون خير زوجة له إن أقدم.

خطة عروس داهية

هكذا إذاً ترسم جوليا خطتها لجمع بلانزاك ولوتشيلا، وتطلب هي الأخرى الآن من الخادم جرمانو، أن يتخذ لنفسه موقعاً في مخبأ في الصالة، كي يتمكن من رصد تطور الحكاية بين الشاب والفتاة. ويصل بلانزاك بالفعل، وقد انضم إليه دورفيل بعدما تمكن من الخروج سراً من البيت. وها هو دورفيل الآن يحاول أن يقنع بلانزاك، بأن جوليا لا تنفعه كزوجة… بل إنها ليست حسناء على الإطلاق… لكن الذي يحدث هو أن بلانزاك، بقدر ما يسمع هذا النوع من الكلام، يبدو راغباً بجوليا أكثر وأكثر، وعازماً على النجاح في مسعاه. وهو هنا، على سبيل التحدي ومن منطلق الثقة بالنفس، يطلب من دورفيل أن يختبئ في زاوية ليراقب بأم عينه، كيف سيتمكن هو أي بلانزاك من إقناع جوليا، أخيراً، بأن تزوجه. وبالفعل لا يرى دورفيل مهرباً من إطاعة صديقه… وهكذا يختبئ في زاوية، من دون أن يعرف طبعاً أن جرمانو مختبئ يراقب في زاوية أخرى. هنا في هذه اللحظة تدخل جوليا وقد قررت أن تطرح، على بلانزاك، عدداً من الأسئلة كي تعرف ما إذا كان يصلح، بالفعل، زوجاً لابنة عمها. غير أن الأسئلة تبدو، لمن لا يدرك غاية جوليا، وكأنها تعبر عن اهتمام هذه الأخيرة ببلانزاك… وهكذا يندفع دورفيل معتقداً أن جوليا إنما تمهد الطريق لنفسها لدى صديقه، ويعبر عن غضبه أمام دهشة جرمانو الذي كان هو الآخر قد خرج من مخبئه بدوره. ووسط هذه الضجة تدخل لوتشيلا في شكل مفاجئ، ليتنبه بلانزاك إلى جمالها، بل يرى هذه المرة إنها أكثر حسناً من جوليا…

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

انكشاف الحقيقة

وعند المساء، نرى جوليا حزينة يائسة إذ لم يصل دورفيل بعد، كي تشرح له حقيقة ما حصل… وجرمانو إذ يلاحظ هذا كله، يتدخل هنا كالعادة متنبهاً إلى أن جوليا تنتظر موعداً ما… يعتقد أولاً أن الموعد مع بلانزاك، فيقرر أن يختبئ من جديد ليراقب ما يحدث. بل إنه يخبر لوتشيلا بالأمر، فتصعق لأنها أغرمت حقاً ببلانزاك ويسوؤها أن تسرقها جوليا حبيبها هذا… وتقرر أن يختبئ في غرفة جوليا كي ترصد ما يحدث. وطبعاً تكون المفاجأة الطيبة، للجمع، حين يظهر دورفيل وتنشكف كل الحقائق السعيدة، حتى أمام العجوز دورمون الذي أيقظه هذا كله، فاندفع ليغضب أولاً ثم ليبارك.

حين عرضت “سلم من حرير”، للمرة الأولى في شهر مايو (أيار) 1812، في البندقية، أثارت أوبرا جواكينو روسيني 1792 – 1868 ضجة فنية كبرى، إذ جمعت بين رقي الموسيقى وجماهيرية الموضوع، ما مهد الطريق لنجاحات لاحقة حققها هذا الفنان عبر نحو أربعين أوبرا كتبها خلال أقل من عقدين من السنين. ما جعله يعتبر الأب الشرعي للأوبرا الحقيقية في الفن الإيطالي، كما أن أعماله الدرامية والتراجيدية الكبرى مهدت الأجواء لظهور خلفاء كبار له من أمثال فيردي وبوتشيني اعتبروه دائماً معلمهم الأكبر.

نقلاً عن : اندبندنت عربية