لم يكن مسار محمد شياع السوداني السياسي مزروعاً بالورد منذ تسلمه إدارة الحكومة العراقية بمجلس وزراء ملتبس، يضم وفق وصف مراقبين “وجوهاً متآلفة وقلوباً متخالفة” بحسب المشارب السياسية ومعادلة المحاصصة السائدة، التي صارت عرفاً سياسياً في العراق، ومثالاً على الدولة الفاشلة.
السوداني المنحدر من جنوب العراق، وتحديداً من محافظة ميسان، وجد نفسه مضطراً إلى العمل بصفته شيعياً مع حزب الدعوة الإسلامي معلناً كونه مدخلاً بالإطار التنسيقي، الاسم الآخر للائتلاف الشيعي، الذي يديره صقور الشيعة الأربعة، نوري المالكي والشيخ قيس الخزعلي وهادي العامري وعمار الحكيم، الذين يقررون سياسة البلاد الحالية، بعد انسحاب كتلة مقتدى الصدر ونوابها الـ73، من العملية السياسة في يونيو (حزيران) 2022 تحقيقاً لرغبة زعيمهم وتعبيراً عن ولائهم المطلق له.
هيأ انسحاب التيار الصدري فرصة لصعود محمد شياع السوداني اللافت لرئاسة الحكومة، لما عرف عنه من اعتدال وتدرج في إدارة الدولة، حين تولى ثلاث وزارات سابقة، فضلاً عن كونه من عراقيي الداخل، الذي لم يخرج إبان حكم النظام السابق وظل يعمل مهندساً زراعياً في بلدته العمارة، ليعلن الإطار الشيعي ترشيحه مضطراً بصفته ممثلاً عن السلطة الأولى في البلاد وهي رئاسة الوزراء، وليتسلم منصب القائد العام للقوات المسلحة، وفق الدستور النافذ في النظام البرلماني الساري اليوم.
أصدقاء الأمس خصوم اليوم
أدرك السوداني أن أصدقاءه حلفاء الأمس لن يكونوا أصدقاء اليوم فهو ليس من نسيجهم السياسي، ولم يعش معهم حقبة المعارضة في الخارج، ولم يوافقوا في البدء على ترشيحه كما هو ظاهر لدورة ثانية في الانتخابات المبكرة المتوقعة أوائل العام المقبل، فراح يتحالف من الآن مع بعض أطراف الإطار الشيعي، من الجيل الثاني للإدارات الشيعية، ليكسب ودهم وتعاطفهم، ومن ثم قرارهم بتأييده في حال رشح نفسه لدورة ثانية في الانتخابات الجديدة.
سرقة القرن لعنة الحكم
ورث السوداني من سلفه مصطفى الكاظمي، ما يسمى في العراق بـ”سرقة القرن” التي أكلت من جرف حكومته، لعدم حسمها المبكر وتقديم المتورطين فيها للمحاكمة السريعة، وعدم الالتفات للمطالبة بالاقتصاص من الجناة، الذي يزيد عددهم على 30 متهماً في مقدمتهم نور زهير وتقديمهم إلى المحاكمة، وحسم موضوعهم قضائياً.
ويرى البعض أنه أخطأ حين فاوض عائلة المتورط بسرقة 2.5 مليار دولار على استرجاع المبلغ المهدور من أمانات الضريبة العامة، وتعهد باسترجاع جميع المبلغ إلى خزينة الدولة، من دون إعلان المبلغ الكلي المسروق من الدولة، الذي أضحى يزداد رقماً كلما طالت فترة بقاء هذا الملف مفتوحاً وتسرب معلومات من المنافسين ليصل إلى 11 مليار دولار كما يقول بعض النواب والإعلاميين المشغولين بهذه القضية التي يسيل لها لعاب المنتفعين وغير المنتفعين معاً، لا سيما أن السوداني أعلن رسمياً استرداد المبالغ خلال أسبوعين لكن مضى عليه 90 أسبوعاً من دون جدوى مما ولد تشككاً مجتمعياً عن صدقية ذاك الإعلان بإرجاع المبلغ إلى الدولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشهدت الأيام الماضية تطورات دراماتيكية هزت حكومة السوداني حين هرب المتهم الأول إلى جهة مجهولة ولم يحضر المحاكمة مهدداً بكشف العناصر الرسمية وغير الرسمية التي ابتزته وأخذت مبالغ منه كـ”إتاوة”، كما قال في مقابلة علناً، مهدداً بتقديم أسمائهم للقضاء مع الأدلة، وجلهم من النواب والسياسيين والإعلاميين، مضيفاً تعقيداً آخر بوجه السوداني الذي كان يأمل بأن تسوى القضية ودياً، لكن موجة جديدة من الاستنكار الشعبي عمت البلاد، وأشعلت منافذ التواصل الاجتماعي بعد تسريبات عن تفاصيل جديدة لتلك العملية التي شارك فيها أسماء قريبة من قيادات الإطار التنسيقي، ومقربون من السوداني، مما يفسره البعض بأنه السبب وراء عدم حسم الملف بحزم ومعاقبة السارقين.
تقييد ملزم للسوداني
يقول الباحث السياسي هيثم هادي إن “رئيس الوزراء أياً كانت صلاحيته فهو عادة مقيد بشروط يضعها قادة الإطار الأربعة، المالكي والخزعلي والعامري والحكيم، ويعطونه دوراً ضعيفاً لا يحيد عن نمطهم السياسي الخاص، ورؤساء الوزراء الذين حاولوا الخروج عن النمط المألوف لم يجدد لهم ومنهم حيدر العبادي لذا فإن محاولة السوداني تشكيل تحالف سياسي مع بعض المحافظين مثل العيداني وإمكانية استفادته من المنصب وموارد السلطة في تشكيل تحالف قد يفقد الإطار وجوده الهزيل جماهيرياً شكل إنذاراً لقوى الإطار ودفعهم لفضح قضايا فساد موجودة أصلاً لإخراج السوداني وإسقاطه مبكراً. وأعتقد أن أمام السوداني ثلاث طرق، إما السقوط المبكر الضعيف أو الاستسلام وإكمال الوزارة من دون دور أو ثالثاً المواجهة والبقاء وهذا قد يفضي إلى طرح تصادم سياسي علني وأكثر حدة من التصادم الحالي الذي اعتمد على فضح قضايا فساد وتجسس”.
يستطرد هادي، “طبعاً لا ننسى دور الصدر الذي لم يذكره أحد وهو ممكن أن يكون (جوكر اللعبة) القادمة إذ إن قادة الإطار قلقون من أن يأخذ السوداني من جرفهم ومن ثم يتحالف مع الصدر ومن ثم يضعهم في الزاوية المميتة”.
شبكة تجسس
الفضيحة الكبرى التي طوقت سمعة مكتب السوداني وعمله تجلت في الكشف عن شبكة وصفت بالتجسس على أطراف فاعلة في الدولة العراقية، تورط فيها أحد المقربين في مكتب رئيس الحكومة، الذي يعمل معاون رئيس الدائرة الإدارية في مجلس الوزراء وأمين عام التواصل الحكومي مع النواب، المدعو محمد جوحي، ويشاركه في إدارة الشبكة مجموعة من ضباط الأمن الرقمي، إذ اعترفت الشبكة بتوجيه الجيوش الإلكترونية، للتجسس على نواب وسياسيين وتجار ومالكي قنوات فضائية، وصناعة الأخبار المزيفة وانتحال صفات لرجال أعمال وسياسيين والتنصت على هواتف نواب ومسؤولين في الدولة.
مدير مركز حلول للأبحاث، الباحث مازن صاحب الشمري، يقول إن “النظر لمعادلة السلطة من الخارج يختلف عنها من الداخل، وهناك اتفاق على أن الجيل الثاني من قيادات الأحزاب لهم فرصة أفضل في المستقبل، وهذا اتجاه يقوده الخزعلي. ووفق هذه المتغيرات يتفاعل الجميع في الاستعداد للانتخابات المقبلة.
ويضيف، “تيار الفراتين باق ويتمدد في الاستعداد لهذه الانتخابات. وموضوع الملفات جاهز في حرب الجميع ضد الجميع. ومحاولة محاصرة هذا التيار بملفي سرقة القرن والتجسس ضمن هذا الاتجاه. والسؤال الأهم هل ينجح السوداني في إدارة التنافس بموافقة أميركية-إيرانية.. أم لا؟
واقع الحال أن كل متغيرات ملفي سرقة القرن أو التجسس يمكن أن يتحول إلى ملف قضائي وحسب أو يتحول إلى ملف فضائح”.
قضية التجسس في مكتب رئيس الوزراء أخذت أبعاداً خطرة في نظر المسؤولين لا سيما أولئك الذين كانوا هدفاً لهذا العمل الشائن، فيقول سياسي أوروبي من أصول عراقية وباحث ومراقب دولي، عمر محمد نور الراوي، إن “فضيحة التجسس لها أبعاد عدة، فهي تتنافى مع مبدأ الحريات العامة التي تحفظ الخصوصيات وسرية البريد والمراسلات والتكلم عبر منصات التواصل والهاتف. التنصت على المكالمات المفروض ألا يكون ممكناً إلا بأمر من القاضي بعد تقديم طلب من الادعاء العام. وأي عمل خارج هذا النطاق يعتبر خرقاً للقانون وتعدياً على الحريات الشخصية، هذا هو البعد القانوني. أما البعد السياسي فهذا يعتبر خطوة لا تؤدي إلى تعزيز الثقة بين الأطراف السياسية. التنصت والتجسس بين أطراف موالية وصديقة يؤدي إلى تداعيات سياسية وكلنا نتذكر قصة التنصت على هاتف الرئيس الفرنسي أو المستشارة الألمانية. أما على مستوى الخصم السياسي فكلنا نتذكر فضيحة (وتور غيت) التي أطاحت بالرئيس الأميركي نيكسون. والسؤال الآن: ماذا حصل في بغداد؟ وهل كان على علم من رئيس الوزراء؟ وهل أصدر بياناً إعلامياً ليبدي رأيه في الموضوع، ويبين صدقه من عدمه وأنها مجرد ادعاءات؟ لو كان عندنا معارضة حقيقية في البرلمان العراقي وهي مغيبة للأسف لتبنوا ذلك، لكن كل هذا معدوم عندنا لأن النواب غالبيتهم منشغلون في توزيع المناصب والمصالح”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية