تتألّف المجموعة القصصية “خدعة همنغواي” (دار العين) من 12 قصّة ، وتنقسم ثلاثة أقسام، بناء على إخراج الكاتب؛ القسم الأول عنوانه “قصّة افتتاحية/ بمثابة استهلال”، في حين أنّ عنوان القسم الثاني “شظايا وأحلام”، أما القسم الثالث، فعنوانه “خاتمة طويلة نسبيا”، وقد تشكّل من قصّة طويلة يمكن أن تتوسّع نواتها لتكون رواية أو نوفيلاّ بأقلّ تقدير.
يسبغ المؤلّف على كلّ قسم وظيفة دلالية معيّنة، قد تغني عن اختراع حبكة قصصية كثيرة التشويق، أو قد تكون نوعاً مما بات يُسمّى “الميتا قص” وفيه ينبّه الكاتب الى وظيفة كلّ بنية من بنى المجموعة القصصية، ضماناً لاتّساقها المطلوب، وتكامل موضوعاتها التي تعالجها كلّ قصّة على حدة، وكلّ قسم من الأقسام الثلاثة. وعلى هذا يمكن اعتبار القصّة الافتتاحية “بمثابة استهلال” إيذانا بالمنهج التجريبيّ الذي يباشره الكاتب أحمد مجدي همّام، إذ يروي قصة مستمدة من حياته المهنية، وقد طلب منه مديره، في شركة متعددة الجنسيات، أن يرسم المتقدمون الى الوظائف، خطاً أعلى من قامتهم. ولما كان الراوي أطول الحاضرين، أمكن رسم خطّ أعلى منهم جميعا، وظنّ أنه ربح الشرط، فما كان من المدير إلاّ أن قفز من فوق الجميع، ورسم خطّا أعلى بكثير مما رُسم، ليوحي لهم بأنّ عليهم أن يتجاوزوا ما بذلوه من جهد على الدوام. وبعد الانتهاء من تلاوة القصة ذات العبرة، يروح الكاتب يستلّ من التراث السردي (الف ليلة وليلة) ومن التراث السردي العالمي (باموق، وملفيل، ونايبول، وغيرهم) بعضاً من افتتاحات للسرد، تُدخل القارىْ الى صميم الحبكة، بيسر وسرعة. وفي هذا يلعب الكاتب لعبة الميتا قص، أو ما وراء القص- وهذه باتت من الأدبيات المعاصرة – من أجل الإيحاء بأنّ في قصصه اللاحقة مداورات وأساليب جديرة بانتباه القارىْ والناقد على السواء، وهو ما يحصل. ومن ثمّ يجعل موسوعيّته المتنامية رافداً لتجربته القصصية، وباباً لدخوله الإرث القصصي العالمي.
حبكات الغرابة والكوابيس
وبالعودة إلى حبكات القصص، على تواليها في المجموعة، تروي قصة “الدرس” كيف أنّ الراوي، وهو الكاتب نفسه، كان لضيقه من المدرسة، وهو فتى، يلفّق لوالدته أسبابا شتى، منها أنه أُغمي عليه في الصف، وأُسعف، حتى يمتنع عن الحضور الى المدرسة، وصودف أن التقى والده بمعلّمه عطيّة، وانكشف سرّه. فأدرك عندئذ أنه ينبغي له تأليف قصص أكثر تماسكاً وصدقية.
وفي قصّة تالية، عنوانها “الصوت الغائر”، يتعاطى الكاتب، وهو الراوي نفسه، مع صوت الإيمانِ المستيقظ في روحه، بعد همود دام أكثر من عشرين عاماً. ويروح القاصّ، يتثبّت في نفسه من رسوخ صفات المؤمن، ويُعجب، في الآن نفسه، من توارد الآيات القرآنية الكريمة التي توافقها، وتحالمجموعة القصصية الجديدة (دار العين)ثّه على المزيد من التقوى والإيمان. فلم يدع الراوي، العائد حديثا الى إيمانه، مظهرا من مظاهر التقوى إلاّ تطرّق له (من مثل خطوات الوضوء، وصلاة الفرض، وركعتي تحية المسجد، وغيرها)، إلى أن شطح به التفكير ليظنّ نفسه متوفّى في ختام الصلاة بالمسجد. ولماّ ظنّ نفسه ميْتاً طلب الجنّة، فردّ الصوتُ القادم من رأسه قائلا: “الجنّة؟ أحمق أنت؟ هل تريد أن تدخلَ الجنّةَ في ركعتين؟” (ص:28)
وإذ نواصل القراءة، ونبلغ القصة الثالثة بعنوان “فلسفة النار” نقع على حكاية بائع جوّال للإيشاربات الرخيصة والأقمشة الشعبية، المسمّى سعيد، ورفقته الراوي صاحب أحد المحلاّت التجارية. ويعلمنا الكاتب، عبر ذاك الراوي، أنّ سعيداً كانت خطيبته الجميلة قد ماتت بسبب خطأ طبّي، وأنه كان ناقماً على المشافي الحكومية وعلى الأطبّاء، وأنّ له فلسفةً في النار خاصة، تقضي بألاّ يقدم شعلة أو ناراً لصديقه (سعيد) يشعل بها سيجارته. إلى أن لقيه آخر مرّة وقد أضرم النار في نفسه، بعد أن صادر رجال البلدية فرشته وبضائعه للمرة الثالثة، في حادثة تذكّر بما قام به محمد البوعزيزي التونسي لثلاثة عشر عاما خلت (2011)، وكانت علامة على انطلاق الثورة في البلاد. إلاّ أنّ القصّة، المقسّمة بدورها ثلاثَ مراحل، تبدو محاكاة لمراحل تطوّر علاقة الراوي بشخصية البائع سعيد، حتّى مصيره الدرامي واحتراقه وتحوّله رماداً أمام ناظري الأوّل.
وفي القصّة الرابعة بعنوان “أزمة اقتصادية” (ص:33-41) يفعّل الكاتب استراتيجية جديدة، نسبة للمستخدمة سابقا؛ إذ تجري الشخصية الوحيدة حوارا داخليا (مونولوغ) مستفيضا عن أزمة الشخص الاقتصادية، وانهيار أوضاع عائلته، ثم اضطراره للعمل وادّخار المال، ومصادفة الأزمة الاقتصادية التي عمّت البلاد، واستخلاصه من ذلك أنّ “التضخّم يأكل كلّ شيء إلاّ الذهب” (ص:34). فيعمد الى شراء أونصة من الذهب رقمها أربعة تسعات (999،9)، ويظلّ يأنس إليها، ويخطب ودّها، ويناجيها، على أنّها كل خلاصه، ولا يرتاح، في نهاية المطاف، إلاّ بابتلاع تلك الأونصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالطبع، لن يتسنّى لهذه العجالة أن تقدّم كلّ حبكات القصص ، إنما هي إشارات نريدها دالّة على عالم الهمّام القصصي؛ ومن ذلك نطلّ على قصة “خدعة هيمنغواي”، والتي كرّسها عنواناً لمجموعته، ونتبيّن حبكتها التي نوجزها بالآتي؛ كان ثمّة شابة -هي البطلة الوحيدة- تهوى الموسيقى والقراءة، وأرادت أن تقرأ لهيمنجواي، بترجمات علي القاسمي، وفقا لتوجيه الشاب الخبير بهمينجواي، الذي صادفته في محلّ لبيع السمك المشوي والروبيان. وحالما وقع نظرها على لافتة المحلّ “الشيخ والبحر “استحضرت في خيالها صورة العجوز سانتياغو على متن قاربه الصغير. ولكنّ ذائقتها الأدبية أبت عليها إلاّ التثبّت من جمال النص، فعاودت قراءة الرواية، فوجدتها مسطّحة ومملّة. ومن ثمّ عمدت الى تقييمها، وقد صارت فيلما، ثمّ من وجهة نظر المواقع الاجتماعية، التي خيّبتها جميعها. فلم تجد بدّا من إحراق صفحات الرواية تحت قَدر معيّن أحضرته بهذا الخصوص. وفي الختام، مضت الى حيث كان المطعم، فوجدت مكانه دكّاناً للتبغ وللنراجيل يديره السيد بيسوا!
انشغالات سردية
لا ينشغل أحمد مجدي الهمّام، في هذه المجموعة القصصية، وربما في سائر أعماله الروائية، بالواقع أو بالعالم الحقيقي الذي يحيا فيه، كونه كاتباً مصريا عربيا، تحاذيه القضايا الراهنة، أو تؤلمه شخصيا، من دون أن يرى نفسه ملزماً أخذها في اعتباره لدى صوغه متنَ نصّه. وإنّما نراه منشغلاً بفكرة الكتابة بحدّ ذاتها، وبالزوايا التي ينبغي له النظر منها إلى قضايا الإنسان الفرد، المأزوم، والضعيف، والهامشيّ، والذي يكاد يكون مجرّداً من الصفات -على قولة روبير موزيل- إلاّ من حساسيّة فنّية وميل الى اختراع عالم رديف يعوّضه عن بشاعة العالم الحقيقي، ويُشعره بفتنة الحياة، وإن متخيّلة.
ثمّ إنّ هذا العالم هو داخليّ في الصميم، بل يكاد القارىْ يقول إنّه ليس من إشارات مكانية دالّة على أنّ الكاتب يبني شبه عالمه من نثرات واقعية، سوى النادر منها والكافية للإيحاء بصدقيّة القصّ. هو العالم الداخليّ سيدٌ في قصص همّام، ينهض من الحلم، ومن الكوابيس (كوابيس)، ومن الرغبات المكبوتة، ومن الضيق المادي (أزمة اقتصادية)، ومن الاختناق والقهر(فلسفة النار)، ومن لعبة الخيال المحضة (نقطة زرقاء)، ومن لعبة البقاء الكافكاوية (الاتّجاه الخطأ) حيث تكاد تُهدر آخر قيَم الإنسانية، في سردية قاسية ومتفرّدة وجريئة وعميقة، في آن.
وإلى ذلك، لا يغيب عن بال الهمّام أن يناقش في آليات الكتابة، بينما لا يزال في عزّ الكتابة، في ما بات يسمّى بالميتا قص، أو ما وراء الكتابة. كما لا يضيره أن ينتقد أعمال المكرّسين في الأدب العالمي (همينغواي)، مسبغاً على كلامه القدر اللازم من الفكاهة والهزء والطرافة المفارقة، لئلاّ يأخذ القرّاء كلامه على محمل المنافسة أو التفريط بمكانة العظماء.
وللكاتب أحمد مجدي همّام أعمال روائية وقصصية أهمها: قاهريّ، وأوجاع ابن آوى، والجنتلمان يفضّل القضايا الخاسرة، وعيّاش، والوصفة رقم 7، وموت منظّم، وأعمال أخرى.
نقلاً عن : اندبندنت عربية