قد لا يكون المؤرخ الفرنسي جان فافييه واحداً من كبار نجوم تلك المدرسة التجديدية في كتابة تاريخ العالم، والتي عرفت بـ”مدرسة الحوليات” تيمناً بالعنوان المختصر الذي عرفت به دورية ذلك التيار التي تعد دائماً من أهم المصادر لدراسة التاريخ بالمعنى العلمي للكلمة، على ضوء مجموعة لا تنتهي من التواريخ الاقتصادية والفكرية والثقافية والبيئية والجغرافية، وغير ذلك، لكن فافييه كان لفترة طويلة رئيساً لتحرير مجلة أخرى كانت أكثر شعبية على رغم سيرها في الخط نفسه، وهي مجلة “ليستوار” التي قربت العلوم التاريخية النخبوية إلى أذهان عامة القراء، ومن هنا لئن كان قد اعتاد أن يعمل في صمت، فإن ما كان يكتبه من أبحاث وكتب كان ينتشر، وربما أكثر من انتشار مؤلفات نجوم ذلك التيار فرنان بروديل وجورج دوبي وميشال شانو وجاك ليغوف وليروا لادوري الراحل حديثاً، والذي سبق أن تحدثنا هنا عن كون واحد من كتبه باع من النسخ ما تعجز عن بيعه أكثر الروايات الشعبية انتشاراً. ولعل في مقدورنا هنا أن نقرب من حال ذلك الكتاب كتاباً أصدره جان فافييه نفسه قبل ثلث قرن من الآن انتشر انتشاراً كبيراً على رغم علميته. ففي النهاية جاء الكتاب قبل نهايات القرن الـ20 ليعالج مجموعة من المسائل التي كانت تشغل بال الجمهور العادي في مرحلة ما بعد الماركسية تلك، مثل العولمة وطرق التجارة العالمية ومفهوم رجل الأعمال وتاريخ الرأسمالية ومآلاتها. ومع ذلك حمل الكتاب عنواناً أقل طموحاً وأكثر تواضعاً هو “عن الذهب وعن التوابل”، وإن كان يوحي منذ غلافه بأن جديده أنه يبحث في تاريخ ولادة رجل الأعمال الأوروبي في القرون الوسطى وفي الكيفية التي تمكن بها رجل الأعمال هذا من تبديل صورة العالم وإخضاع الجغرافيا والاستراتيجية والحروب لمصالحه.
تاريخ ما للمجتمع
إذا كان المجتمع قد ولد يوم اجتمع أول شخصين في غابر العصور على فكرة التبادل والصراع الاجتماعي يوم ثبت أول شخص حدوداً لأرض قال إنها تخصه. فإن الرأسمالية احتاجت لأن تنتظر ألوفاً أخرى من السنين قبل أن تولد. وحين نتحدث عن الرأسمالية هنا لا نعني بالطبع التراكم الفردي الأولي للثروات في أيدي أفراد قلائل، وهو أمر بدأ باكراً مع إدراك الإنسان لقيمة التبادل، وإنما نعني التراكم الرأسمالي المفضي إلى إعادة إنتاج الثروات من طريق التجارة. ونعني الحقبة التي انتهى فيها عصر طغيان بائع المفرق لحساب بائع الجملة وتاريخ ولادة الرأسمالية هذه. وعلى هذا النحو هو الذي يشكل الموضوع الذي صاغ من حوله جان فافييه كتابه الجديد، وهو كتاب كان واضحاً أن مؤلفه وضعه كي يستكمل به جانباً من الجوانب التي كان المؤرخ الكبير فرنان بروديل قد عالجها في واحد من كتبه الرئيسة “نشوء الرأسمالية”.
يطلق جان فافييه على كتابه الجديد عنواناً فرعياً هو “ولادة رجل الأعمال في العصر الوسيط”، والحال أن كتابه يرسم هذه الولادة، لكنه يتجاوزها في الزمان، وإن كان يحصرها في المكان، فرجل الأعمال الذي يتحدث عنه فافييه هنا هو رجل الأعمال الأوروبي (الإيطالي والألماني والفرنسي بخاصة) هو رجل الأعمال التاجر المصرفي الذي بدأ يحقق التراكم ما إن خرجت أوروبا من ظلمات العصور الوسطى، في مدن مثل جنوة والبندقية ومارسيليا وهامبورغ، ثم باريس ولندن ونابولي، وغيرها. أما الزمان فيمتد عميقاً إلى بدايات اكتشاف الإنسان لفائض القيمة الذي يمكن تحقيقه من خلال البيع الممنهج، ويصل إلى العصر الحديث، ليس لأن المؤلف يؤرخ لنا الرأسمالية كما تجلت في العصر الحديث، بل لأنه يرسم القواعد التي أنبتت الرأسمالية على أساسها.
… وتكونت خريطة العالم
يرى المؤلف أن الرأسمالية ولدت مع التكون العالمي لخريطة العالم. ففي البدء حين كانت الاقتصادات محلية، انطلاقاً من مبدأ الاكتفاء الذاتي، أو التقايض على الصعيد المحلي لم يكن ثمة مجال لإحداث أي تراكم رأسمالي معقول، فيما بعد، حين بدأت تتكون المدن على حساب الأرياف، والوحدات السياسية على حساب المقاطعات المغلقة، ومع ازدياد الحاجات من جهة إلى المواد الأولية المتناقضة، ومن جهة ثانية إلى المواد التي كانت مجهولة من قبل (وهما عنصران يعكسهما الذهب من ناحية، والتوابل من ناحية أخرى، ومن هنا مغزى عنوان الكتاب)، برز “الاستيراد والتصدير” كعامل له مركز الصدارة في حركة انتقال البضائع على الصعيد العالمي. ومثل هذا الانتقال ما كان له أن يكون ممكناً من دون توفر عنصر وسيط، عنصر مركزي يلعب دور حلقة الوصل بين المنطقة التي يتم الاستيراد منها، والمنطقة التي يتم التصدير إليها. وفي مثل هذه الحال كف مبدأ التقايض عن لعب الدور الرئيس في حركة التبادل التجاري، لتصبح العملة ذات الحظوة، ثم بالتدرج تركت العملة مكانها للحسابات المصرفية. وزادت أهمية المصرف الذي صار شيئاً فشيئاً، الجزء الأساس في دورة الرأسمال. وفي هذا السياق، ينطلق المؤلف من واقع أنه بين زمن المعارض التجارية الأولى في مقاطعة شامباني الفرنسية، والانطلاقات الجريئة إلى ما بعد جبل طارق ومغامرات آل مديتشي وآل فوغر وأمثالهم المالية الكبرى، تحول التاجر القديم إلى رجل أعمال. وعلى هذا النحو توسعت آفاقه، وراحت تطلعاته تتجاوز عالم البضاعة نفسها، واغتنت تقنياته. وتعلم كيف يهيمن على صفقاته وأعماله، وابتكر أشكال التسليف التي سرعان ما صارت الأشكال الأساس في اللعبة المصرفية. صحيح أنه عند ذاك تعلم كيف يخاطر، لكنه تعلم كذلك كيف يجعل لمخاطراته حدوداً مرسومة، وبهذا المعنى صار منظماً للإنتاج، وخلق الرأسمالية.
دمج السياسة بالاقتصاد
لكنه في الوقت نفسه، وهذا هو الأهم، تمكن – وربما للمرة الأولى في التاريخ – من دمج العنصر الاقتصادي في الحياة السياسية. وجان فافييه يكرس معظم فصول كتابه في الواقع لدراسة هذا التمفصل بين الاقتصادي والسياسي، والتمفصل الذي لعب فيه البنك دوراً أساسياً وأدى إلى نشوء الدول الأوروبية الحديثة متمحورة من حول المراكز المالية – شركات استيراد وتصدير، مصارف، نقابات لرجال الأعمال حلت محل المنغلقات الحرفية القديمة… إلخ – وفي ظل هذه التحولات يقول جان فافييه، تصبح لمغامرات ماركو بولو وكريستوفر كولومبوس وماجلان دلالات مختلفة عن الدلالة الرومانسية المتداولة. تصبح رحلات هؤلاء جزءاً من مغامرة الرأسمالية الكبرى، لا جزءاً من مغامرة الإنسانية. والفرق شاسع بين العنصرين. وكذلك، في السياق نفسه، لا تعود الجغرافيا مجرد علم يدرس في المدارس، بل تصبح جزءاً من لعبة الاستراتيجية الاقتصادية نفسها، وعلى هذا النحو، حين ولدت الرأسمالية الحديثة عرفت كيف تولد معها الجغرافيا كما ولدت علم الاقتصاد. وحتى الحروب منذ ذلك الحين صار لها شأن آخر: كفت عن أن تكون حروباً دينية وأيديولوجية وحروب توسع ديموغرافي لتصبح حروباً تتمحور من حول التنافس الاقتصادي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
… وهكذا ولد العالم الجديد
إذاً، من ولادة المظاهر الأولى للعالم الجديد، ومنذ كفت الطرق الرومانية القديمة عن الإفادة للقوافل والتجار (لأنها طرق استراتيجية عسكرية، يقول فافييه أقيمت للوصول بسرعة إلى هدف محدد، بينما يمكن لطرق التجارة أن تكون ملتوية، بل من الأفضل لها أن تكون كذلك، لكي تصل البضائع إلى أكبر عدد ممكن من الزبائن). ومنذ اندلعت حاجات التبادل الجديدة، ولد الحيز الاقتصادي، ومنه ولد فن الملاحة الحقيقي، وولدت التبادلات الجديدة وولدت الطرقات الجديدة. وهذه الولادة يصحبنا المؤلف في جولة معها عبر فصول كتابه المتلاحقة ليصل في النتيجة إلى أن رجل الأعمال في ابداعه للاقتصاد السلعي ولتضافر السياسي مع الاقتصادي (بالتالي مع الاجتماعي والثقافي، ولا سيما مع الجغرافي والعسكري) تمكن من اكتشاف فن مراكمة الرساميل والديناميات، وأمن للثروات إثماراً جديداً، وعثر على الوسائل الكفيلة بتأمين التوسع خارج حدود الكتلات النقدية. وهو أبدع فن التحليل الممنهج للبنى والحراكات، وابتكر الوسائل الضرورية للوصول إلى توازن بين المجازفة والأمان، وكيف لنفسه مكانة خاصة في المجتمع الذي بات مقتنعاً أكثر وأكثر بالتضافر التبادلي للسياسة وللاقتصاد.
وهكذا ولد نمط جديد من الرجال، اتخذ لنفسه مكانة بين المسؤولين والفاعلين، ولكن بين الشهود أيضاً، لكنه في الوقت نفسه لم يعد المغامر الأفاق الذي يكتشف المناطق المجهولة. صار ثمة أناس أفاقون آخرون يكتشفونها لحسابه، وهو يدير العملية من تلك المراكز التي صارت فيما بعد نقاط الثقل في المدن الكبرى.
مع ولادة رجل الأعمال – باختصار شديد – ولد العالم الجديد كله.
نقلاً عن : اندبندنت عربية