التخطي إلى المحتوى

كان غراهام ثورب أحد أهم لاعبي الكريكيت في إنجلترا من بين أبناء جيله. ولكن طوال سنوات عدة، على ما ورد في نص نعيه المنشور أخيراً في صحيفة “تايمز”، عانى في حياته الشخصية كما مسيرته المهنية من تداعيات طلاق مرير كتبت عنه علانية صحف ومجلات الفضائح (التابلويد).

حتى في أحسن أحواله عانى ثورب من الاكتئاب والقلق، وقد كشفت عائلته أنه آثر الانتحار في نهاية المطاف منهياً حياته بنفسه. بيد أنه بلغ الذروة في مسيرته المهنية في أوج أزمة قرصنة الهواتف والتنصت عليها، إذ استخدمت بعض الصحف أساليب إجرامية سمحت لها بالتسلل إلى الحياة الخاصة لأي شخصية تقريباً معروفة في المجال العام. كان ذلك من سوء حظ ثورب وعائلته، إذ لحق بهم أذى كبير في حملة التلصص على حيوات الناس.

والحال نفسها تنطبق على سفين جوران إريكسون، المدرب السابق لمنتخب إنجلترا لكرة القدم، الذي صارت حياته الخاصة الشغل الشاغل لصحف الفضائح أيضاً، على نحو ما أعادت على مسامعنا مختلف خطب التأبين والوداع عقب وفاته الأسبوع الحالي. فعلاً، كشفت محاكمات وإجراءات قضائية لاحقة أن هاتفه قد تعرض لاختراق إلكتروني مرات كثيرة لمصلحة محررين في صحف ومجلات عدة، صبوا اهتمامهم على حياته العاطفية (وعلى المبيعات التي تحققها المؤسسات حيث يعملون) أكثر مما اهتموا بقدراته كمدرب.

إذا بدت لك تلك الحقائق كما لو أنها عودة إلى حقبة مختلفة وأشد قبحاً من أيامنا هذه، فاشكر “قانون حقوق الإنسان”، الذي يشترط على المحررين الآن الموازنة بين ضرورتين متعارضتين: الحق في حرية التعبير من جهة، والحق في الخصوصية من جهة أخرى. بناء عليه، يتعين على المحرر الآن أن يثبت وجود مصلحة عامة ساحقة قبل أن يتهور وينشر على الملأ أياً من المغامرات الرومانسية لشخصية شهيرة في عالم الرياضة.

في الحقيقة، نشر [خصوصيات] ثورب أو إريكسون لم ينطو على أي مصلحة عامة، مع أنه في المقابل كانت موجودة الحجة القوية التي تسوغ الكشف عن العلاقة المثيرة للجدل التي كان “داونينغ ستريت” شاهداً عليها بين رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق هربرت أسكويث والسيدة الأرستقراطية فينيسيا ستانلي، والتي كانت بحسب الروائي البريطاني روبرت هاريس، علاقة كاملة مع “غرفة نوم متنقلة على عجلات” في وقت كانت أوروبا على شفا الحرب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

باختصار، تبقى الكلمة الفصل في مسألة حرية التعبير للأحكام والأعراف المجتمعية والتوازنات القانونية. ليست حرية التعبير مطلقة، إلا في أذهان الليبراليين من أمثال إيلون ماسك.

حتى ماسك لا بد أن يكون على دراية بالحكمة التقليدية القائلة إنه من الخطأ ببساطة أن نصيح “شب حريق” في مسرح مكتظ بالجمهور! [لما يثيره هذا الفعل من ذعر وتدافع للناس وغيرهما من عواقب]. أما إذا كان على بينة من هذه الحكمة، فإن سلوكه أثناء أعمال الشغب التي أعقبت أحداث ساوثبورت البريطانية [قتلت ثلاث فتيات خلال هجوم على حفل راقص في البلدة الساحلية في شمال إنجلترا وأثار بانتشار معلومات خاطئة حول هوية الفاعل كثيراً من الاحتجاجات والاعتقالات والاشتباكات مع الشرطة] يشير إلى أنه، ودونما أي مبالاة، يستمتع باتباع سياسة صب الزيت على النار المشتعلة.

وبالنسبة إلى ماسك، يبدو فعلاً أن حرية التعبير والحقيقة سيان، شأنه مثلاً شأن شخص مر مرور الكرام على كتابات جون ستيوارت ميل، وتعثر بمبدأ الفيلسوف الإنجليزي، الذي ورد في كتابه “عن الحرية” On Liberty المنشور عام 1859، والقائل بأن “الآراء والممارسات الخاطئة ترضخ بالتدريج للحقيقة والجدل”.

المؤلف والصحافي الإنجليزي توبي يونغ، الذي يناضل، وإن بشكل انتقائي، من أجل حرية التعبير اليوم كان يطرح الحجة نفسها في الليلة الماضية على المحطة التلفزيونية “جي بي نيوز” GB News، إذ جاء في كلامه: “طبعاً، اترك الناس يحسمون آراءهم بشأن مختلف الأمور، فيقررون أيها خطأ وأيها صواب، وأي المعلومات مضللة، وأيها موثوقة”. وإذا كانت الأخبار مغلوطة، فإنها في نهاية المطاف ستخسر المنافسة أمام الجموع في الساحة العامة، وذلك في معركة حرة ومفتوحة”.

من حقك أن تسأل ما إذا كان ماسك وتوبي يؤمنان بهذا الكلام حقاً. وحتى في عصر ستيوارت ميل، كانت المعلومات رهينة المتحكمين بها، ويأتي في الدرجة الأولى محررو الصحف وناشرو الكتب، وعلى النقيض كان صوت الملايين في المجتمع غير مسموع في “الساحة العامة”.

وفي أيامنا هذه، صرنا أمام أكثر من ساحة عامة واحدة، بمعنى أن المليارات منا أصبحوا متصلين ببعضهم البعض الآن ويعيشون في المساحات الرقمية عينها. ولكن مع ذلك، فإن اعتقاد توبي القائل بأننا إزاء “معركة حرة ومفتوحة” للحصول على المعلومات، الصائب منها والزائف، على هذا المسرح الإلكتروني، ليس سوى تصور موهوم.

مثلاً، يُقال إن لدى المستخدم العادي لمنصة “إكس” (“تويتر”) نحو 700 متابع. يبلغ عدد متابعي إيلون ماسك 196 مليون مستخدم، لذا في عملية حسابية بحتة، يتبين لنا أن صوت ماسك أقوى بـ 280 ألف مرة من صوت المستخدم العادي. لكنه أصر على إعادة تصميم منصته على نحو يسمح له بتوسيع نطاق وجهات نظره وآرائه فيكون صعباً على أي من مستخدمي “إكس” البالغ عددهم 360 مليوناً الإفلات منها وعدم الاطلاع عليها، سواء أكانت صائبة، أو مغلوطة، أو مجنونة، أو ملهمة، أو تآمرية، أو تحريضية. لذا تبدو هيمنته الفعلية على ساحته العامة فلكية.

عندما ينشر ماسك تغريدة ما أو يسهم في تضخيم حجم خبر زائف والمبالغة فيه عن سوء نية في ظروف تروح فيها العصابات تتجول حرفياً في الشوارع كي تحرق فنادق تؤوي طالبي لجوء، فإنه بذلك يحذو حذو دونالد ترمب الذي أشعل فتيل التمرد [حرض أنصاره في خطابات ألقاها، حتى أنه توجه إليهم قائلاً “قاتلوا بضراوة عندما كان الكونغرس مجتمعاً للتصديق على فوز الرئيس جو بايدن] في 6 يناير (كانون الثاني) 2021. للأسف، تدور الكذبة حول العالم قبل أن تجد الحقيقة لها مكاناً على الإنترنت ويبدأ المستخدمون في تصفحها.

لا ريب في أن ماسك معجب كبير ببافيل دوروف [مؤسس تطبيق “تيليغرام” ورئيسه التنفيذي]، الذي ألقت الشرطة الفرنسية القبض عليه أخيراً موجهة إليه تهمة عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة ضد استخدام منصته “تيليغرام” في الترويج لمواد إباحية متصلة بالأطفال، والاتجار بالمخدرات، والاحتيال، إضافة إلى غسل الأموال والإمداد بالعقاقير المخدرة والإرهاب، وتطول اللائحة.

وفق كتاب جديد يتناول استحواذ ماسك على “تويتر” بقلم اثنين من الصحافيين العاملين في “نيويورك تايمز”، أراد المالك الجديد للمنصة أن يكون “إكس”https://www.independentarabia.com/”تويتر” شبيهاً بـ”تيليغرام”، الذي حظي بقاعدة مستخدمين تبلغ 800 مليون شخص حول العالم في مقابل 30 موظفاً فقط.

بطبيعة الحال، قوبل اعتقال دوروف بغضب شديد من مجموعة متنوعة من حلفاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وباستياء مشوب بخوف من أمثال ماسك، الذي استشهد بجورج أورويل، ومذيع قناة “فوكس نيوز” السابق تاكر كارلسون، الذي قال إن اعتقال مؤسس “تيليغرام” كان بمثابة “تحذير حي لأي صاحب منصة يرفض فرض رقابة على الحقيقة بناء على طلب من الحكومات وأجهزة الاستخبارات”.

بعبارة أخرى، كان اعتقال دوروف عملاً رقابياً وليس إجراء من إجراءات إنفاذ القانون، ذلك أنه في عالم كارلسون وماسك القيمة التي تنطوي عليها حرية التعبير تتفوق على القيم الأخرى، ولن ترجح كفة الأضرار التي تخلفها مهما كان حجمها. المنصة التي تضم ثلاثة موظفين لكل 100 مليون مستخدم ليست أكثر من عش دبابير. إنها مساحة عامة خارجة عن القانون حرفياً. نتمنى لكم التوفيق في “معركة حرة ومفتوحة” هناك.

بالطبع، في المتناول حجج مشروعة نسوقها في ما يتصل بالتشفير الشامل من طرف إلى طرف بقصد الخصوصية؛ وعدم تعرض المنشقين السياسيين للاضطهاد؛ وعمل الصحافيين من دون مراقبة الدولة، وما إلى ذلك. ولكن اعتقال دوروف وتحذيرات الاتحاد الأوروبي الأخيرة بشأن الغرب المتوحش الذي صارت منصة ماسك “إكس”https://www.independentarabia.com/”تويتر” مساحة له، تؤشر إلى أننا نقترب من لحظة الحساب.

وشأن غرف التحرير التابعة لروبرت مردوخ التي نالت عقابها [أُتهمت صحف مجموعة مردوخ بالتنصت على آلاف الشخصيات] بعدما عملت لسنوات طويلة في مأمن من أي عقوبة، فإن السادة الجدد للنظام المعلوماتي سيكتشفون عما قريب أن حرية التعبير ليست مطلقة في أي مجتمع متحضر.

في الوقت نفسه، دعونا نصرف عن أذهاننا هذا التصور الخيالي من العيش في حقبة “المعركة الحرة والمفتوحة” حيث ستزدهر الحقيقة بطريقة أو بأخرى في الأدغال الوحشية الجديدة من النوع الذي صنعه ماسك.

كان جون ستيوارت ميل مفكراً عظيماً، ولكنه لم يضطر أبداً إلى الدخول في صراع ضد خوارزمية. يحتاج عصرنا، وبشكل حثيث، إلى فلاسفة جدد.

آلان روسبريدجر، رئيس تحرير صحيفة “الغارديان” سابقاً، ورئيس تحرير مجلة “بروسبكت”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية