في عالم السياسة الذي يسوده الرجال تأتي المرأة بكل ما تحمله من طموحات وتحديات لتقف إلى جانب الرجل أو لتزيحه من منصب أو لتحكم بلداً أو حزباً، فترتدي ثيابها بأناقة وحزم كأنها تشذب مظهرها بإتقان، فيتجاوز أسلوبها الموضة، وتصبح إطلالاتها بمثابة بيانات للقوة والهوية الثقافية والقيم الشخصية.
من الأناقة التقليدية إلى الاحترافية الحديثة، استخدمت النساء الموضة كأداة للتنقل في عالم السياسة المعقد، كل ذلك مع إحداث تأثيرات دائمة في بلدانهن والعالم. وكثيراً ما كانت اختيارات الأزياء التي تتبناها السياسيات موضوعاً مثيراً للاهتمام، ليس فقط للجمهور، لكن أيضاً لصناعة الأزياء، إذ يمكن اعتبار ملابسهن وسيلة للتواصل، تعكس قيمهن، وخلفياتهن الثقافية، والأدوار التي يلعبنها في الساحة السياسية.
الاتصال بالثقافة
من أنديرا غاندي إلى كامالا هاريس، قائمة من السياسيات استخدمت كل واحدة منهن الموضة والأسلوب الشخصي وسيلة للتعبير عن السلطة والتقاليد والحداثة في آن.
إلى جانب مسيرتها السياسية الهائلة، يتذكر الناس الراحلة أنديرا غاندي (1917 – 1984) رئيسة وزراء الهند كالسيدة الأولى والوحيدة، بثوبها الهندي التقليدي الذي ارتدته بأناقة وثقة. فكانت ترتدي الساري القطني البسيط بألوان هادئة في الأيام العادية رمزاً لارتباطها بعامة الناس، أما الساري الحريري الفاخر فكانت ترتديه خلال المناسبات الرسمية تقديراً للحرفية الهندية.
كان أسلوب غاندي مزيجاً من التقليد والحداثة. شعرها القصير غير المصبوغ الذي تعلوه خصلة بيضاء، وهو أمر غير تقليدي بالنسبة إلى النساء الهنديات في ذلك الوقت، ووجه يبدو خالياً من المكياج ومجوهرات بسيطة للغاية، كلها عوامل سلطت الضوء على تركيزها على الجوهر بدلاً من الأسلوب.
وكانت الراحلة بنظير بوتو (1953 – 2007)، أول رئيسة وزراء امرأة في باكستان، معروفة بأسلوبها الأنيق ذي الجذور الثقافية. فكانت ترتدي في كثير من الأحيان قميص الشالوار، وهو الزي الباكستاني التقليدي الذي يتكون من سترة طويلة وسروال، مع دوباتا (وشاح) ملفوف فوق رأسها. واعتبر اختيارها الملابس بمثابة بيان للفخر الثقافي ووسيلة للتواصل مع شعب باكستان. كما يدل الدباتا، الذي ترتديه فوق رأسها، على احترامها التقاليد الإسلامية، بينما تعكس خيارات ألوانها النابضة بالحياة وتصميماتها المعقدة شخصيتها ورؤيتها لباكستان الحديثة.
وتدمج اليوم رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن عناصر من ثقافة بلادها في خزانة ملابسها. فترتدي أحياناً عباءات الماوري التقليدية المعروفة باسم “كورواي” خلال الأحداث المهمة. ويعد مزيج أرديرن بين الملابس الحديثة والتقليدية انعكاساً لأسلوب قيادتها الشامل والمتعاطف، مما جعلها تحظى بالإعجاب على المستويين المحلي والدولي. وتقول مصممة الأزياء كارين ووكر عن أسلوب أرديرن إن “اختيارات جاسيندا في الموضة تدور حول تكريم جذورها والشعب الذي تمثله. إنها تستخدم الموضة وسيلة للاتصال بثقافتها وبلادها”.
سلاح تاتشر وحذاء ماي
تسريحة واحدة وحقيبة يد طبعت الصورة الجادة لمارغريت تاتشر (1925 – 2013)، أول رئيسة وزراء للمملكة المتحدة. فخزانة ملابسها مرادفة للملابس القوية، بالبدلات المصممة والألوان الجريئة. غالباً ما اختارت “المرأة الحديدية” التنانير والسترات المصممة خصيصاً والمزينة باللؤلؤ والبروشات.
وكانت حقيبة اليد التي يشار إليها غالباً باسم “سلاحها” في الساحة السياسية من أكثر أكسسواراتها شهرة، وكانت جزءاً مهماً من صورتها لدرجة أن كلمة “حقائب اليد” Handbagging دخلت المعجم البريطاني، مما يرمز إلى نهج تاتشر الحازم والجاد. وقد علقت مصممة الأزياء فيفيان ويستوود على أسلوب تاتشر قائلة “كانت تدرك أنه لكي تؤخذ على محمل الجد، بخاصة في مجال يسيطر عليه الرجال، كان عليها أن تختار ملابسها بعناية، فلم تكن بالنسبة إليها مجرد أزياء، بل كانت تعبر عن القوة”. وكثيراً ما نوقش أسلوبها على نطاق واسع في دوائر الموضة كنموذج لكيفية ارتداء النساء في السلطة لتحقيق الاحترام.
واشتهرت تيريزا ماي، التي شغلت منصب رئيسة وزراء المملكة المتحدة من عام 2016 إلى 2019، بأسلوبها الذي يجمع بين الأناقة البريطانية والميل إلى الأكسسوارات المميزة. فاختارت الفساتين والمعاطف المصممة من الأقمشة البريطانية الكلاسيكية، مثل التويد، مما يعكس أيضاً تقديرها التقاليد والحرفية، لكن اختيارها الأحذية هو الذي تصدر العناوين في بعض الأحيان، إذ اشتهرت بارتداء أحذية جريئة ومميزة، بما في ذلك الكعب العالي بطبعات الفهد والأحذية المسطحة ذات الألوان الزاهية، مما أضاف لمسة من الشخصية والذوق إلى ملابسها المحافظة. فنقلت اختياراتها في الأسلوب الثقة والفرادة.
انظروا إليَّ كقائدة
تعرف أنغيلا ميركل، أول مستشارة لألمانيا، بنهجها العملي والجاد في السياسة والموضة. يتميز أسلوبها بالبساطة والعملية، وغالباً ما يظهر ذلك في اختيارها البدلات أحادية اللون. وستراتها تتميز عادة بظلال من اللون الأزرق أو الأخضر أو الأحمر، وتقترن بسراويل سوداء، مما يظهر كأنه زي موحد. يعكس أسلوبها التركيز على جوهر عملها بدلاً من زخارف السلطة. تؤكد اختياراتها البسيطة للأزياء تفانيها في العمل ورغبتها في أن ينظر إليها كقائدة أولاً وقبل كل شيء. وكأن ستراتها وسراويلها البسيطة وسيلة تجنب التشتيت والحفاظ على التركيز على عملها بدلاً من مظهرها. وقد علق المصمم كارل لاغرفيلد على أسلوب ميركل قائلاً “أسلوبها لا يعبر عن الموضة، بل عن الثبات والموثوقية. إن انتظامها في اللباس هو بيان بحد ذاته يعبر عن نهجها العملي في السياسة”.
من جهتها ارتدت هيلاري كلينتون بدلاتها العملية والأنيقة وهي تنافس دونالد ترمب بربطة عنق حمراء. وقال المصمم مايكل كورس، الذي صمم ملابس لها في مناسبات عدة “بدلات هيلاري هي رمز لعمليتها وقوتها. إنها تعرف أن عملها جدي، وتلبس بطريقة تعكس ذلك”. وقالت الناقدة في مجال الأزياء روبن جيفان “أصبحت البدلة رمزاً لهوية هيلاري كامرأة جادة ومحترفة مستعدة لتولي أعلى المناصب”.
مزيج برسائل شتى
أما كامالا هاريس، أول نائبة لرئيس الولايات المتحدة، المرشحة في الانتخابات الرئاسية عن الحزب الديمقراطي، فعرفت بمزيج أسلوبها الحديث والمهني الذي يعكس جذورها ودورها كسياسية جادة. تقدر هاريس تراثها من خلال اختياراتها للأزياء، فتستخدم اللؤلؤ في إشارة إلى ذوقها النسائي، وخلفيتها الأميركية الأفريقية الآسيوية. فتمزج بين الاحترافية واللمسة الشخصية.
وأثار تفضيلها البدلات الرسمية وارتداء الأحذية الرياضية “كونفرس” نقاشاً واسعاً في عالم الموضة. وقال المصمم برابال غورونغ “أسلوب كامالا هو مزيج من الاحترافية والأصالة. إنها تكسر القوالب النمطية بإظهار أن النساء في السلطة يمكن أن يكن أنيقات وقريبات من الناس”.
ويعكس أسلوب هاريس دورها الديناميكي في السياسة، إذ تمزج بين التقليدي والمعاصر، مما يشير إلى تغيير في كيفية تقديم النساء في المناصب القيادية لأنفسهن. واللون الذي تختاره يحمل رسائل أيضاً، فارتدت يوم تنصيبها نائبة رئيس عام 2021 فستاناً ومعطفاً أرجوانياً كرمز للشراكة بين الحزبين، اللون الأزرق الديمقراطي والأحمر الجمهوري. وتعد حتى الآن على رغم الشعر الكلاسيكي الغامق والبدلات الرسمية قادرة على شق طريق خاص لها في الموضة بخاصة بعد ارتدائها الذهبي، والجينز، والأحذية المسطحة والرياضية.
علم نفس الملابس
تشير نظرية “إدارة الانطباع”، إحدى النظريات النفسية الأساسية المتعلقة بالملابس، إلى أن الأفراد يستخدمون الملابس للتحكم في كيفية إدراك الآخرين لهم، هذا الأمر مهم للنساء إذ يمكن أن يؤثر زيهن في مدى جدية التعامل معهن في البيئات التي يسيطر عليها الذكور، وتواجه النساء تحديات لسلطتهن بناء على القوالب النمطية الجنسية. وفقاً لعالمة النفس المتخصصة في علم نفس الملابس، جينيفر بومغارتنر، فإن “الملابس هي أداة قوية لإدارة الانطباع. تستخدم النساء في المناصب القيادية ملابسهن لإبراز الثقة والسلطة والاحترافية”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير مفهوم “الإدراك المتعلق بالثياب” إلى تأثير الملابس في العمليات النفسية للمرتدي. ففي بحث نشر في مجلة علم النفس الاجتماعي التجريبي Journal of experimental psychology أشار إلى أن ارتداء الملابس الرسمية يمكن أن يعزز التفكير المجرد ويجعل الأفراد يشعرون بالقوة. بالنسبة إلى النساء في السلطة، يمكن أن يساعد ارتداء الملابس الرسمية في تجسيد الصفات المرتبطة بالقيادة، مثل الحسم والثقة. يفسر هذا الظاهرة التي تجعل عدداً من السياسيات والقائدات يتجهن إلى ارتداء ملابس تعكس القوة، لأنها تعزز صورتهن الذاتية كأشخاص مؤهلين وذوي سلطة.
ويتقاطع علم نفس الملابس أيضاً مع الهوية الثقافية والاجتماعية، إذ تستخدم النساء في السلطة ملابسهن للإشارة إلى خلفياتهن الثقافية أو للتواصل مع مجموعات اجتماعية معينة. مثل ساري غاندي، ودوباتا بوتو ولؤلؤ هاريس، مما يمكن أن يعزز شعور المجتمع والهوية المشتركة بين مؤيديها.
تشير عالمة النفس، مؤلفة كتاب “انتبه لما ترتديه: علم نفس الموضة”، الدكتورة كارين باين، إلى أن “الملابس يمكن أن تكون جسراً بين الشخصي والسياسي، مما يسمح للنساء في السلطة بالتواصل مع قيمهن وهوياتهن الثقافية”. يتضح هذا بصورة خاصة عندما ترتدي النساء في المناصب القيادية ملابس تقليدية أو ذات دلالة ثقافية خلال الأحداث المهمة، مما يعبر عن احترامهن تراثهن والشعوب التي يمثلنها.
بين الأنوثة والذكورية
يتأثر علم نفس الملابس بالنسبة إلى النساء في السلطة بالقوالب النمطية الجنسية. فتواجه النساء القائدات ازدواجية المعايير، إذ يتوقع منهن التوازن بين الأنوثة والسلطة. إذا ارتدين ملابس أنثوية للغاية، فقد ينظر إليهن على أنهن أقل كفاءة، وإذا ارتدين ملابس ذكورية للغاية، فقد ينتقدن لعدم التوافق مع كونهن نساء.
وتسلط أبحاث من مجلة علم النفس الاجتماعي الضوء على أن النساء في السلطة يتنقلن بين هذه التوترات من خلال تبني أسلوب يمزج بين العناصر الذكورية والأنثوية. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد استخدام البدلات المصممة بأقمشة ناعمة أو ألوان أنثوية على إبراز السلطة مع الالتزام بتوقعات المجتمع المتعلقة بالأنوثة. تتيح هذه الإستراتيجية للنساء تأكيد قيادتهن من دون الابتعاد عن القواعد الجنسانية.
السراويل دروع مخفية
ينظر أحياناً إلى اختيار النساء في السلطة السراويل على أنه خطوة إستراتيجية لمواءمة أنفسهن مع السلطة المرتبطة تقليدياً بالقادة الذكور. ومع ذلك، فإن الأسباب النفسية والاجتماعية وراء هذا الاختيار أكثر دقة من مجرد محاولة الظهور كرجل. بالنسبة إلى النساء في السلطة، يمكن أن يثير ارتداء السراويل مشاعر الثقة والسلطة، بما يتماشى مع السمات المرتبطة عادة بالقيادة.
تقول عالمة النفس كارين باين Karen Pine التي تدرس تأثير الملابس في السلوك، إن “البدلات يمكن أن تساعد النساء على تجسيد الخصائص التي يحتجنها لتأكيد السلطة في البيئات التي يهيمن عليها الذكور”. وتشير إلى أنه “عندما ترتدي النساء سراويل مصممة خصيصاً، فقد يشعرن بمزيد من القوة والسيطرة، وهو أمر بالغ الأهمية في البيئات السياسية العالية الأخطار حيث غالباً ما يخضعن لتدقيق شديد”.
وتاريخياً، وعلى الصعيد الاجتماعي ارتبطت السراويل بالرجولة، ومن خلال اختيار ارتدائها، تتحدى القيادات النسائية بمهارة المعايير الجنسانية التقليدية التي فرضت منذ فترة طويلة كيف ينبغي للمرأة أن ترتدي ملابسها. ومع ذلك، فإن الاختيار لا يقتصر على مجرد اعتماد مظهر ذكوري، بل بإنشاء هوية بصرية احترافية وعملية ومناسبة لمتطلبات القيادة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية