تتألف الدراسة التي يضمها كتاب “فقراء مدينة القاهرة” (الهيئة المصرية العامة للكتاب) من تمهيد وخمسة فصول وخاتمة. عالجت الباحثة في التمهيد أوضاع فقراء مدينة القاهرة بداية من ظهور المشكلة بداية القرن الـ19 وبروزها بصورة واضحة منذ مجيء الاحتلال البريطاني عام 1882. وعرضت في الفصل الأول مشكلات فقراء القاهرة ومظاهر سوء أحوالهم المعيشية. وحمل الفصل الثاني عنوان “قضايا فقراء القاهرة في الصحافة والبرلمان”. وجاء الفصل الثالث تحت عنوان “الدولة ومواجهة مشكلات فقراء القاهرة”. وألقى الفصل الرابع الضوء على “المجتمع المدني وقضايا فقراء القاهرة”. وناقش الفصل الخامس موضوع “فقراء مدينة القاهرة في الأدب والفن”.
ولاحظت الباحثة في ختام دراستها أنه حين تضاعف عدد سكان مصر عام 1947 مقارنة ببداية القرن الـ20 لم تحقق الزيادة في المساحة المزروعة أكثر من 16 في المئة، مما شكل ضغطاً على الأحوال المعيشية لفقراء القاهرة. وإلى جانب تقصير الحكومات المتتالية في مواجهة الأزمات المتفاقمة في أوساط الفقراء اقتصادياً واجتماعياً، لم يكن البرلمان على قدر المسؤولية في هذا الصدد، لأن أعضاءه كانوا من كبار الملاك والرأسماليين فوقفوا حجر عثرة أمام أية اقتراحات لمواجهة الأزمة ببعديها الاجتماعي والاقتصادي، خصوصاً في القاهرة التي تعد أكثر المدن المصرية سكاناً. ومن جانبها تجاهلت غالبية صحف تلك الفترة تناول مشكلات الفقراء في أحياء العاصمة الشعبية.
الظلم الاجتماعي
أما الأدباء والفنانون فكان هذا الأمر محل اهتمام عدد منهم، وهو موضوع الفصل الخامس والأخير في هذه الدراسة ذات المنهج التاريخي. بين عامي 1946 و1947 كتب لويس عوض رواية “العنقاء” وتعد من أهم الأعمال الأدبية تعبيراً عن تردي الأوضاع الاجتماعية خلال تلك الفترة، ولكنه لم يتمكن من نشرها إلا بعد قيام ثورة 1952. وكان لويس عوض يرى أن مصر تحتاج إلى إصلاح جذري لعلاج سوء الأوضاع الاجتماعية. كما أن رواية عادل كامل “مليم الأكبر” تضمنت تصويراً للظلم الاجتماعي خلال الفترة نفسها. ويعد يحيى حقي من أبرز الأدباء الذين تناولوا الموضوع نفسه في غير عمل أدبي وكانت مدينة القاهرة بؤرة اهتمام غالبية تلك الأعمال، وتحديداً حي السيدة زينب. وكانت أعمال يحيى حقي ذات دلالات واضحة في ما يخص حياة الفقراء، فنجده في إحدى قصص مجموعته “كناسة الدكان” يصف بائع إبر مواقد الغاز الذي يقفز من ترام إلى آخر وهو يحمل بضاعته بحثاً عن قوت يومه من دون خوف على حياته. ونجده لا ينسى فقراء العاصمة من الباعة المتجولين من ويلات جنود الاحتلال البريطاني في أعقاب الحرب العالمية الأولى وما تعرضوا له من سرقة بضائعهم، وخص بالذكر الجنود الأستراليين الذين وصفهم بأنهم الأكثر عنفاً وقسوة.
واستعرض حقي في “قنديل أم هاشم” التي صدرت عام 1944 آثار الفقر على حي السيدة زينب وظاهرة المتسولين. وتحولت الرواية نفسها عام 1968 إلى فيلم يحمل الاسم نفسه. وفي قصة “أم العواجز” 1955 يعرض حقي نموذجاً لفقير يجد نفسه مضطراً للدخول في حرب مع أقرانه من المعوزين يومياً للحصول على قوت يومه. ويمكننا وضع أعمال الفرنسي مصري الأصل ألبير قصيري في هذا السياق، ومن أبرزها رواية “شحاذون ونبلاء” والتي قدمتها السينما المصرية لاحقاً في فيلم بالعنوان نفسه من إخراج أسماء بكري.
الانحراف الأخلاقي
ولنجيب محفوظ تسع روايات من 1945 إلى 1952 يقدم كل منها صوراً واقعية للطبقات الفقيرة. ومنها روايته “القاهرة الجديدة” 1946 وكان بطلاها “محجوب عبدالدايم” و”إحسان شحاته”، يمثلان القطاع العريض من الشعب المصري الذي لم يستفد من المبادئ الاشتراكية التي انتشرت خلال الأربعينيات. وفي “بداية ونهاية” التي تدور أحداثها عام 1936 أبرز نجيب محفوظ سوء أوضاع إحدى أسر الطبقة المتوسطة عقب وفاة عائلها. أما رواية “السقا مات” 1952 ليوسف السباعي فقد ناقشت سوء أحوال أحد دروب القاهرة “أكوام القمامة تراكمت على جوانبه، تحيط بها المياه الآسنة”، و”يبدو لنا المنزل خراباً في خراب وفقراً في فقر”. ولم يقف الأمر في أدب بيرم التونسي عند رسم الصورة الفنية لمختلف طبقات المجتمع وبخاصة الطبقة الفقيرة، بل تعداها إلى تعمق موضوعها وكشف أبعادها. فمثلاً في قصيدة “الفقر” لا يهدف بيرم التونسي إلى رسم صورة للخيانة الزوجية بقدر ما كان مهموماً بتوضيح دور الفقر في الانحراف الأخلاقي. أما عبدالحميد الديب الذي عاش حياة فقيرة فكان يعد من مدرسة الظرفاء في الأدب التي تعالج المشكلات الاجتماعية بالهجاء والسخرية.
وخلال العقد الأول من القرن الـ20 كان المسرح – كما تؤكد الباحثة – بعيداً من حياة المصريين، ولكن بعد ثورة 1919 أصبحت الحركة المسرحية أكثر اتصالاً بحياة الطبقة الدنيا، وأظهرت أبناء هذه الطبقة في ثلاث فئات، الفئة التابعة ويمثلها أصحاب المهن البسيطة الذين يعملون في خدمة الطبقات الأعلى ويعيشون على حد الكفاف، ومنهم شخصية “آدم” الذي يعمل في خدمة أسرة “جاويد بك” في مسرحية “إلا خمسة” لنجيب الريحاني وبديع خيري. ثم فئة العمال ويمثلها “عباس” في مسرحية “حسن ومرقص وكوهين” وهي أيضاً للريحاني وخيري. وفئة المعدمين الذين يلجأون إلى الأعمال الطفيلية وتمثلها أعمال علي الكسار “الذي برع في تجسيد دور المهاجر من الجنوب إلى العاصمة ليجد فرصة عمل توفر له دخلاً يسد رمقه”.
السينما والكاريكاتير
وتعد أعمال سيد درويش التي بدأها قبل ثورة 1919 بمثابة نقل للواقع على خشبة المسرح ومنها مسرحية “ولو” التي تعاون فيها درويش مع الريحاني وبديع خيري، وكانت بمثابة تعبير عن أحوال الفئات المطحونة من العمال في ظل الاحتلال البريطاني. ومع تزايد الدعوات لتشجيع الصناعة الوطنية كانت أغاني سيد درويش أكبر عامل مروج لها. وعالج توفيق الحكيم موضوع الفقر في مسرحية “الجوعى” 1950 وتدور أحداثها حول فئتين من الطبقة الدنيا هما العاطلون والأطفال المشردون. ومن الأفلام التي كان الفقر ونتائجه محورها الأساس فيلم “العزيمة” 1939 للمخرج كمال سليم والذي يعد من أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، ومن أوائل الأفلام التي عرضت مشكلات الأحياء الفقيرة خلافاً للسائد وقتها، واعتبر أول فيلم واقعي مصري. وفي السياق ذاته يأتي فيلم “السوق السوداء” للمخرج كامل التلمساني والذي جاء في المرتبة الـ34 في قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما دور فن الكاريكاتير في هذا الصدد فيمثله وفقاً للباحثة ألكسندر صاروخان الأرمني الذي ابتكر شخصية “المصري أفندي”، تعبيراً عن مشكلات الطبقتين الوسطى والدنيا ومن ذلك تصويره لأثر أزمة الكساد العالمي في مجلة “روز اليوسف” بتاريخ التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1931، على صورة غول الخراب الذي يهاجم البلاد فيما تفشل الحكومة في الإمساك به والسيطرة عليه. وخلال عام 1943 نشرت مجلة “آخر ساعة” لصاروخان كاريكاتير تحت عنوان “النشرة الطبية عن حالة الوزارة”، صور فيه سوء حال المرضى وعدم وجود رعاية مناسبة. وكانت رسوم محمد عبدالمنعم رخا الكاريكاتيرية “هي أروع تسجيل للحياة السياسية والاجتماعية في مصر”، ومن الشخصيات التي ابتدعها “ابن البلد، بنت البلد، حمار أفندي، غني حرب”.
واتخذت الدراسة عام 1907 بداية لها باعتباره العام الذي شهد أزمة اقتصادية عانتها مصر بصفة عامة، وشهد كذلك خروج تظاهرات العمال الفقراء تحت شعار “جعانين يا أفندينا”، وشهد العام نفسه ظهور عديد من الأحزاب السياسية التي كان تحسين أوضاع الفقراء جزءاً من برامجها. وتنتهي الباحثة إلى أن المشكلات التي يعانيها الفقراء (في مصر عموماً والقاهرة بوجه خاص) خلال الوقت الحالي “تعد امتداداً للمشكلات التي يعود بعضها إلى فترة الدراسة”، ومنها على سبيل المثال انتشار الأحياء العشوائية على أطراف القاهرة وحتى في قلبها، وازدحامها بالفقراء اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وصحياً.
نقلاً عن : اندبندنت عربية